الله عز وجل بالابصار وأتوا في ذلك بضروب من التمويهات، وأكثروا القول فيه من جهة الاستخراجات. وكان من أجل ما زعموا أنهم علموا به صحة قولهم ذلك من الدليل أنهم لم يجدوا أبصارهم ترى شيئا إلا ما باينها دون ما لاصقها، فإنها لا ترى ما لاصقها. قالوا:
فما كان للابصار مباينا مما عاينته، فإن بينه وبينها فضاء وفرجة. قالوا: فإن كانت الابصار ترى ربها يوم القيامة على نحو ما ترى الأشخاص اليوم، فقد وجب أن يكون الصانع محدودا. قالوا: ومن وصفه بذلك، فقد وصفه بصفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان. قالوا: وأخرى، أن من شأن الابصار أن تدرك الألوان كما من شأن الاسماع أن تدرك الأصوات، ومن شأن المتنشم أن يدرك الأعراف. قالوا: فمن الوجه الذي فسد أن يكون جائزا أن يقضى للسمع بغير إدراك الأصوات وللمتنشم إلا بإدراك الأعراف، فسد أن يكون جائزا القضاء للبصر إلا بإدراك الألوان. قالوا: ولما كان غير جائز أن يكون الله تعالى ذكره موصوفا بأنه ذو لون، صح أنه غير جائز أن يكون موصوفا بأنه مرئي.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا، وأما في الآخرة فإنها تدركه. وقال أهل هذه المقالة: الادراك في هذا الموضع: الرؤية.
واعتل أهل هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا: الادراك وإن كان قد يكون في بعض الأحوال بغير معنى الرؤية، فإن الرؤية من أحد معانيه وذلك أنه غير جائز أن يلحق بصره شيئا فيراه وهو لما أبصره وعاينه غير مدرك وإن لم يحط بأجزائه كلها رؤية. قالوا: فرؤية ما عاينه الرائي إدراك له دون ما لم يره. قالوا: وقد أخبر الله أن وجوها يوم القيامة إليه ناظرة، قالوا: فمحال أن تكون إليه ناظرة وهي له غير مدركة رؤية. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك وكان غير جائز أن يكون في أخبار الله تضاد وتعارض، وجب وصح أن قوله:
لا تدركه الابصار على الخصوص لا على العموم، وأن معناه: لا تدركه الابصار في الدنيا وهو يدرك الابصار في الدنيا والآخرة، إذ كان الله قد استثنى ما استثنى منه بقوله:
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة.
وقال آخرون من أهل هذه المقالة: الآية على الخصوص، إلا أنه جائز أن يكون معنى