والفعل، فتقول: جعلت أفعل كذا، وجعلت أقوم وأقعد، تدل بقولها جعلت على اتصال الفعل، كما تقول: علقت أفعل كذا، لا أنها في نفسها فعل، يدل على ذلك قول القائل:
جعلت أقوم، وأنه لا جعل هناك سوى القيام، وإنما دل بقوله جعلت على اتصال الفعل ودوامه، ومن ذلك قول الشاعر:
وزعمت أنك سوف تسلك فاردا * والموت متسع طريقي قادر فاجعل تحلل من يمينك إنما * حنث اليمين على الأثيم الفاجر يقول فاجعل تحلل بمعنى: تحلل شيئا بعد شئ، لا أن هناك جعلا من غير التحليل. فكذلك كل جعل في الكلام إنما هو دليل على فعل له اتصال، لا أن له خطا في معنى الفعل فقوله: وجعل الظلمات والنور إنما هو أظلم ليلهما وأنار نهارهما.
القول في تأويل قوله تعالى: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
يقول تعالى ذكره معجبا خلقه المؤمنين من كفرة عباده ومحتجا على الكافرين: إن الاله الذي يجب عليكم أيها الناس حمده هو الذي خلق السماوات والأرض، الذي جعل منهما معايشكم وأقواتكم وأقوات أنعامكم التي بها حياتكم، فمن السماوات ينزل عليكم الغيث وفيها تجري الشمس والقمر باعتقاب واختلاف لمصالحكم، ومن الأرض ينبت الحب الذي به غذاؤكم والثمار التي فيها ملاذكم، مع غير ذلك من الأمور التي فيها مصالحكم ومنافعكم بها. والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم أيها الناس بربهم الذي فعل ذلك وأحدثه يعدلون: يجعلون له شريكا في عبادتهم إياه، فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثان، وليس منها شئ شركه في خلق شئ من ذلك ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم، بل هو المنفرد بذلك كله، وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره. فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها من عظة، لمن فكر فيها بعقل وتدبرها بفهم ولقد قيل إنها فاتحة التوراة.
10158 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب، قال: فاتحة التوراة فاتحة الانعام:
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.