فإن قال قائل: فهل وجدت في حكم الله تعالى يمينا تجب على المدعي فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟ فإن قلت: لا، تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأولت، لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله: فإن عثرا على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما هما المدعيين. وإن قلت بلى، قيل لك: وفي أي حكم الله تعالى وجدت ذلك؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني، وذلك في حكم الرجل يدعي قبل رجل مالا، فيقر به المدعي عليه قبله ذلك ويدعي قضاءه، فيكون القول قول رب الدين، والرجل يعترف في يد الرجل السلعة، فيزعم المعترفة في يده أنه اشتراها من المدعي أو أن المدعي وهبها له، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في هذا الموضع اليمين على المدعيين اللذين عثرا على الجانيين فيما جنيا فيه.
واختلف أهل العربية في الرافع قوله: شهادة بينكم، وقوله: اثنان ذوا عدل منكم. فقال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: شهادة بينكم شهادة اثنين ذوي عدل، ثم ألقيت الشهادة وأقيم الاثنان مقامها، فارتفعا بما كانت الشهادة به مرتفعة لو جعلت في الكلام. قال: وذلك في حذف ما حذف منه وإقامة ما أقيم مقام المحذوف، نظير قوله:
واسأل القرية وإنما يريد: واسأل أهل القرية، وانتصبت القرية بانتصاب الأهل وقامت مقامه، ثم عطف قوله: أو آخران على الاثنين.
وقال بعض نحويي الكوفة: رفع الاثنين بالشهادة: أي ليشهدكم اثنان من المسلمين، أو آخران من غيركم. وقال آخر منهم: رفعت الشهادة بإذا حضر. وقال:
إنما رفعت بذلك لأنه قال: إذا حضر، فجعلها شهادة محذوفة مستأنفة، ليست بالشهادة التي قد رفعت لكل الخلق، لأنه قال تعالى ذكره: أو آخران من غيركم، وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال، وليست مما ثبت.
وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: الشهادة مرفوعة بقوله:
إذا حضر لان قوله: إذا حضر بمعنى: عند حضور أحدكم الموت، والاثنان مرفوع بالمعنى المتوهم، وهو أن يشهد اثنان، فاكتفي من قيل أن يشهد بما قد جرى من ذكر الشهادة في قوله: شهادة بينكم.