وقد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يتوكأ على عبدين له - وكان قد كف بصره - فقال له: يا عرابة؟ فقال: قال. فقال: ابن سبيل ومنقطع به. قال: فخلى عن العبدين ثم صفق بيديه باليمنى على اليسرى ثم قال: أوه أوه والله ما أصبحت ولا أمسيت وقد تركت الحقوق من مال عرابة شيئا ولكن خذ هذين العبدين. قال: ما كنت لأفعل. فقال: إن لم تأخذهما فهما حران، فإن شئت فأعتق، وإن شئت فخذ. وأقبل يلتمس الحائط بيده، قال: فأخذهما وجاء بهما إلى صاحبيه. قال فحكم الناس على أن ابن جعفر قد جاد بمال عظيم وأن ذلك ليس بمستنكر له، إلا أن السيف أجله. وإن قيسا أحد الأجواد حكمت مملوكته في ماله بغير علمه واستحسن فعلها وعتقها شكرا لها على ما فعلت. وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الأوسي، لأنه جاد بجميع ما يملكه، وذلك جهد من مقل. " البداية و النهاية 8 ص 100 " * (حديث خطابته) * إن تقدم سيد الأنصار في المعالم الدينية، وتضلعه في علمي الكتاب والسنة، و عرفانه بمعاريض القول، ومخاريق القيل، وسقطات الرأي، وتحليه بما يحتاج إليه مداره الكلام ومشيخة الخطابة من العلم الكثار، والأدب الجم، وربط الجاش، وقوة العارضة، وحسن التقرير، وجودة السرد، وبلاغة المنطق، وطلاقة اللسان، ومعرفة مناهج الحجاج والمناظرة، وأساليب إلقاء المحاضرة، كلها براهين واضحة على حظه الوافر وقسطه البالغ من هذه الخلة، وإنه أعلى الناس ذافوق (1) على أن فيما مر و ما يأتي من كلمه وخطبه خبرا يصدق الخبر، وشاهد صدق على أنه أحد أمراء الكلام كما كان في مقدم أمراء السيف. فهو خطيب الأنصار المفوه، واللسن الفذ من الخزرج، ومتكلم الشيعة الأكبر، ولسان العترة الطاهرة الناطق، والمجاهد الوحيد دون مبدءه المقدس بالسيف واللسان، أخطب من سحبان وائل، وأنطق من قس الأيادي، وأصدق في مقاله من قطاة. (2)
(٨٨)