بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم: حكما قسطا، وقضاء عدلا. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا، بقوله في الطاعون: " إنه بقية رجز - أو عذاب - أرسل على بني إسرائيل ".
وكذلك: سلط الله سبحانه وتعالى الريح على قوم عاد (1) سبع ليال وثمانية أيام، ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام، أو في نظيرها -: عظة وعبرة.
وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم، اقتضاء لا بد منه: فجعل منع الاحسان والزكاة والصدقة، سببا لمنع الغيث من السماء والقحط والجدب. وجعل ظلم المساكين، والبخس في المكاييل والموازين، وتعدى القوى على الضعيف - سببا لجور الملوك والولاة: الذين لا يرحمون إن استرحموا، ولا يعطفون إن استعطفوا، وهم - في الحقيقة - أعمال الرعايا: ظهرت في صور ولاتهم. فإن الله سبحانه، بحكمته وعدله، يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبهم: فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو. وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامة، وتارة بهموم وآلام وغموم تحصرها (2) نفوسهم لا ينفكون عنها، وتارة بمنع بركات السماوات والأرض عنهم، وتارة بتسليط الشياطين عليهم، تؤزهم إلى أسباب العذاب أزا: لتحق عليهم الكلمة، وليصير كل منهم إلى ما خلق له.
والعاقل يسير بصيرته بين أقطار العالم: فيشاهده، وينظر مواقع عدل الله وحكمته.
وحينئذ: يتبين (له) (3) أن الرسل وأتباعهم خاصة على سبيل النجاة، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون، وإلى (4) دار البوار صائرون. والله بالغ أمره، لا معقب لحكمه (5) ولا راد لامره. وبالله التوفيق.