وقد جربت أنا وغيري - من الاستسقاء بماء زمزم - أمورا عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض (1): فبرأت بإذن الله. وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد - قريبا من نصف الشهر أو أكثر - ولا يجد جوعا، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني:
أنه ربما بقى عليه أربعين يوما، وكان له قوة: يجامع بها أهله، ويصوم، ويطوف مرارا.
(ماء النيل): أحد أنهار الجنة، أصله من وراء جبال القمر - في أقصى بلاد الحبشة - من أمطار تجتمع هنا لك، وسيول يمد (2) بعضها بعضا، فيسوقه الله تعالى إلى الأرض الجرز التي لا نبات لها، فيخرج به زرعا تأكل منه الانعام والأنام.
ولما كانت الأرض التي يسوقه إليها إبليزا صلبة - إن أمطرت مطر العادة: لم ترو، ولم تتهيأ للنبات. وإن أمطرت فوق العادة: ضرت المساكن والساكن، وعطلت المعايش والمصالح -: فأمطر البلاد البعيدة، ثم ساق تلك الأمطار إلى هذه الأرض في نهر عظيم، وجعل سبحانه زيادته في أوقات معلومة، على قدر رى البلاد وكفايتها. فإذا روى (3) البلاد وعمها:
أذن سبحانه بتناقصه وهبوطه. لتتم المصلحة بالتمكن من الزرع. واجتمع في هذا الماء الأمور العشرة التي تقدم ذكرها (4)، وكان من ألطف المياه وأخفها، وأعذبها وأحلاها.
(ماء البحر). ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ".
وقد جعله (الله) سبحانه ملحا أجاجا، مرا زعاقا، لتمام مصالح من هو على وجه الأرض:
من الآدميين والبهائم. فإنه دائم راكد، كثير الحيوان. وهو يموت فيه كثيرا ولا يقبر.
فلو كان حلوا: لأنتن من إقامته وموت حيوانه فيه وأجاف، وكان الهواء المحيط بالعالم يكتسب منه ذلك وينتن ويجيف، فيفسد العالم. فاقتضت حكمة الرب سبحانه وتعالى أن جعله كالملاحة التي لو ألقى فيه جيف العالم كلها وأنتانه وأمواته: لم تغيره شيئا، ولا يتغير على مكثه من حين خلق وإلى أن يطوى الله العالم. فهذا هو السبب الغائي الموجب لملوحته. وأما الفاعلي فكون (5) أرضه سبخة مالحة.