خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بما يليق بحاله: فبعض الناس يكون قوى الايمان قوى التوكل، يدفع قوة توكله قوة العدوي، كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة، فتبطلها. وبعض الناس لا يقوى على ذلك، فخاطبه بالاحتياط والاخذ بالتحفظ. وكذلك (هو) (1) صلى الله عليه وسلم فعل الحالتين معا: لتقدى به الأمة فيهما، فيأخذ من قوى من أمته بطريقة التوكل (2) والثقة بالله، ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط. وهما طريقان صحيحان:
أحدهما للمؤمن القوى، والآخر للمؤمن الضعيف. فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة وقدوة بحسب حالهم وما يناسبهم. وهذا: كما أنه صلى الله عليه وسلم كوى، وأثنى على تارك الكي وقرن تركه بالتوكل وترك الطيرة. ولهذا نظائر كثيرة. وهذه طريقة لطيفة حسنة جدا، من أعطاها حقها، ورزق فقه نفس فيها -: أزالت عنه تعارضا كثيرا يظنه بالسنة الصحيحة.
وذهبت فرقة أخرى: إلى أن الامر بالفرار (3) منه ومجانبته، لأمر طبيعي، وهو:
انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة، إلى الصحيح. وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة (له) (4). وأما أكله معه مقدارا يسيرا من الزمان، لمصلحة راجحة، فلا بأس به، ولا تحصل العدوي من مرة واحدة ولحظة واحدة. فنهى سدا للذريعة (4)، وحماية للصحة، وخالطه مخالطة ما: للحاجة والمصلحة. فلا تعارض بين الامرين.
وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه، به من الجذام أمر يسير لا بعدي مثله. وليس الجذمي (5) كلهم سواء ولا العدوي حاصلة من جميعهم.
بل منهم: من لا تضر مخالطته ولا تعدى، وهو: من أصابه من ذلك شئ يسير، ثم وقف واستمر على حاله، ولم يعد بقية جسمه. فهو أن لا يعدى غيره أولى وأحرى (؟).
وقالت فرقة أخرى: إن الجاهلية كانت تعتقد: أن الأمراض المعدية تعدى بطبعها، من غير إضافة إلى الله سبحانه. فأبطل (5) النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم