النزعة المثالية، فهما مضطران إلى قبول الحجة التي قدمها باركلي، لان النفس البشرية بمقتضى هذين المبدأين لا تملك ادراكا ضروريا أو فطريا مطلقا. وانما تنشأ ادراكاتها جميعا من الحس وترتكز معارفها عليه، والحس ليس الا لونا من ألوان التصور. فمهما كثر وتنوع لا يعدو حدوده التصورية، ولا يمكن أن يخطو به الانسان إلى الموضوعية خطوة واحدة.
الدليل الثالث: ان الادراكات والمعارف البشرية إذا كانت لها خاصة الكشف الذاتي عن مجال وراء حدودها وجب أن تكون جميع العلوم والمعارف صحيحة، لأنها كاشفة بحكم طبيعتها وذاتها، والشيء لا يتخلى عن وصفه الذاتي، مع أن جميع مفكري البشرية يعترفون بأن كثيرا من المعلومات والاحكام التي لدى الناس هي ادراكات خاطئة ولا تكشف شيئا من الواقع، بل قد يجمع العلماء على الاعتقاد بنظرية ما ويتجلى بعد ذلك بكل وضوح انها ليست صحيحة، فكيف يفهم هذا على ضوء ما تزعمه الفلسفة الواقعية - من ان العلم يتمتع بالكشف الذاتي؟ وهل لهذه الفلسفة من مهرب الا التنازل عن منح العلم هذه الصفة؟
وإذا تنازلت عن ذلك كانت المثالية أمرا محتما، لأنا لا نستطيع ان نصل حينئذ إلى الواقع الموضوعي عن طريق أفكارنا ما دمنا قد اعترفنا بأنها لا تملك كشفا ذاتيا عن ذلك الواقع.
ولأجل ان نجيب على هذا الدليل يلزمنا ان نعرف ما هو معنى الكشف الذاتي للعلم؟ ان الكشف الذاتي للعلم معناه ان يرينا متعلقه ثابتا في الواقع الخارج عن حدود إدراكنا وشعورنا. فعلمنا بأن الشمس طالعة وان المثلث غير المربع يجعلنا نرى طلوع الشمس ومغايرة المثلث للمربع ثابتين في واقع مستقل عنا، فهو يقوم بدور المرآة، واراءته لنا ذلك هي كشفه الذاتي، وليس معنى هذه الاراءة أن طلوع الشمس موجود في الخارج حقا، وأن مغايرة المثلث للمربع ثابتة في الواقع. فان كون الشيء ثابتا في الواقع غير كونه مرئيا كذلك، وبذلك نعرف أن لكشف الذاتي للعلم لا يتخلف عنه حتى في موارد الخطأ والاشتباه، فان علم القدماء بأن الشمس تدور حول الأرض كان له من الكشف الذاتي بمقدار ما لعلمنا بدوران الأرض حول الشمس من كشف - بمعنى انهم كانوا يرون دوران الشمس حول الأرض أمرا ثابتا في