الأشعث، وحضهم على طاعة عبد الملك، وتكلم رجل من أهل البصرة، يقال له سلمة المنقري، من بني تميم، وكان رجلا منطيقا، وله هوى في الخوارج، وكان الحجاج به خابرا. فلما رآه عرف أنه يريد الكلام. فقال له: ادن يا سلمة، فدنا. فقال له: قل: رضينا بالله ربا، وبمحمد نبيا، وبالاسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبأمير المؤمنين خليفة، وبالحجاج بن يوسف واليا.
قال: والله لو كنا زمعا وبني زمع ما رضينا أن نكون تبعا لهذا الحائك، أمير المؤمنين أعزه الله، وأعز أمره، أقرب قرابة وأوجب حقا، ونحن ألزم لطاعة الأمير، أكرمه الله، من أن نسارع له في معصية أو نبطئ عنه في طاعة، فأجابه الحجاج فقال: يا سلمة، هذا قول حسن، لا أدخله صدري، ولأردنه في نحرك، حتى نبتلي حقيقته إن شاء الله، وكان قوله هذا على المنبر، وقد عسكر بأجناده بالزاوية، والزاوية في طرف من ناحية البصرة في طرف بن تميم.
ثم إنه خرج من المسجد، وحشد الناس من كان في الطاعة يومئذ من أهل العراق، وقد كان انهزم لابن الأشعث غير ما مرة، وقتل له ابن الأشعث خلقا لا تحصى كثرة، قبل هذه المرة، حتى يئس من نفسه وقال: أترون العجوز، ابنة الرجل الصالح كذبتني؟ يعني أسماء بنت أبي بكر الصديق، لئن صدقت أسماء لا أقتل اليوم. وكان الحجاج لما فرغ من قتال عبد الله بن الزبير، بعث إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق أن تأتيه، فأبت أن تأتيه. فقال: والله لئن لم تأتني لأبعثن إليها من يجر بقرون رأسها، ويسحبها حتى تصل إلي، فقيل ذلك لها. فقالت: والله لا أسير إليه حتى يبعث إلي من يجر بقرون رأسي. فأقبل الحجاج حتى وقف عليها، فقال لها: كيف رأيت ما فعل الله تعالى بابنك، عدو الله؟ الشاق لعصا المسلمين، المفني لعباده والمشتت لكلمة أمة نبيه؟ فقالت: رأيته اختار قتالك، فاختار الله له ما عنده، إذ كان إكرامه خيرا من إكرامك. ولكن يا حجاج بلغني أنك تنتقصني بنطاقي هذين، أو تدري ما نطاقاي؟ أما النطاق هذا فشددت به سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة بدر، وأما النطاق الآخر، فأوثقت به خطام بعيره. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن لك به نطاقين في الجنة، فانتقص علي بعد هذا أودع، ولكن لا إخا لك يا حجاج، أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: منافق ثقيف يملأ الله به زاوية من زوايا جهنم، يبيد الخلق، ويقذف الكعبة بأحجارها، ألا لعنة الله عليه!
فأفحم الحجاج ولم يحر جوابا. قال: وسار ابن الأشعث بعد ما هزم الحجاج مرارا إلى الكوفة حتى نزل دير الجماجم، فقتل للحجاج فيه خلق كثير، وكتب إلى عبد الملك بن مروان أن أمدني بالرجال، قال: فأمده بمحمد بن مروان في أناس من بني أمية كثير، وجعل الحجاج أمير عليهم، فسار الحجاج إلى ابن الأشعث، فاقتتلوا أياما بدير الجماجم، حتى كثر القتل في