يبايعون فيه بشئ، ولا بالبغل الأغر الأشقر. قال: فدعا الحجاج ببغلة شقراء محجلة، فركبها خلافا لرأيهم، واستشعارا بطيرتهم، وتوكلا على الله، ونادى مناديه في عسكره: أن انهضوا إلى قتال ابن الأشعث، وأمر خاصته فركبوا معه، وقدم رجالته، وأخر خلفه مقاتلته، حتى إذا كانوا من عسكر ابن الأشعث على مثال الأسهم وقف فصف أصحابه وعبأهم للقتال، وفعل مثل ذلك ابن الأشعث، وترجل الحجاج وخاصته، ووضع له منبرا من حديد، فجلس عليه وترامى الناس، حتى إذا كاد القتال ينشب، خرج رجل من أصحاب ابن الأشعث وهو ينادي: ألا هل من مبارز؟
فقام إليه عنبسة بن سعيد القرشي وهو يمشي مشية قد لامه الحجاج عليها، وكرهها له. فلما رآه الحجاج وهو يمشي تلك المشية، قال الحجاج: ظلمتك يا عنبسة، لو كنت تاركها يوما من دهرك لتركتها يومك هذا. فلما دنا من الرجل، قال له عنبسة: فمن أنت يا منتخي؟ فقال: رجل من بني تميم، ثم من بني دارم، فحمل عليه عنبسة، فبدره بالضربة فقتله، ثم انصرف إلى مجلسه فجلس، وقد تبين للناس حسن صنعه، ثم زحف الفريقان بعضهم إلى بعض، واشتد قتالهم، وانتحى سفيان على مركزه لم يرم، والجرشي على مركزه لم يرم، وكانت ميلتهم على الميسرة، فنحوا عبد الرحمن العكى.
فلما رآه الحجاج قد انكسرت ناحيته، وزال عنها، بعث إليه ابن عمه الحكم بن أيوب في خيل.
فقال: انطلق إلى عدو الله فاضرب وجهه بالسيف حتى ترده إلى مقامه، ففعل، وبعث إلى سفيان بن الأبرد يأمره بقتال القوم ومحاربتهم، فحمل عليهم سفيان وهم مشغولون بالميسرة قد طمعوا فيها، وكان بإذن الله الفتح والغلبة من ناحية سفيان، وقد بعث إليه الجرشي يستأذنه للقتال، فمنعه الحجاج وقال له: لا، إلا أن ترى أمرا مقبلا، وتمكنا من فرصة، فاجتمع الأمر، وثاب العكى، وانهزم ابن الأشعث، واستحقت هزيمته، فدعا الحجاج بدابته فركبها، وركب من كان مترجلا معه، بعد سجود ودعاء، وشكر كان منه، على ما صنع الله به ومن كان معه، وحمدوا الله تعالى كثيرا، وكبروا تكبيرا عاليا، ثم انتهى إلى ربوة فأومأ إليها، ثم استقبل ناحيتهم والسيوف تأخذهم، وحسر بيضته (1) عن رأسه، فجعل يقرع رأسه بخيزران في يده، وهو يتمثل بهذه الأبيات، وهي من قول عبيد بن الأبرص، أو من قول اليشكري:
كيف يرجون سقاطى بعد ما * جلل الرأس بياض وصلع ساء ما ظنوا وقد أوريتهم * عند غايات الوغى كيف أقع