حتى اختلفت أعناق فرسيهما بين الصفين، فقال: (إن لك قدما في الإسلام ليس لأحد، وهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهادا، فهل لك أن تحقن هذه الدماء، وتؤخر هذه الحرب برجوعك إلى عراقك، ونرجع إلى شامنا الان تنظر وننظر في أمرنا؟).
فقال علي: (يا هذا، إني قد ضربت أنف هذا الأمر وعينيه، فلم أجده يسعني إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد، إن الله لا يرضى من أوليائه أن يعصى في الأرض، وهم سكوت، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، فوجدت القتال أهون من معالجة الأغلال في جهنم).
قال: فانصرف الشامي، وهو يسترجع، ثم اقتتلوا حتى تكسرت الرماح، وتقطعت السيوف، وأظلمت الأرض من القتام (1)، وأصابهم البهر (2)، وبقي بعضهم ينظر إلى بعض بهيرا. فتحاجزوا بالليل، وهو ليلة الهرير. ثم أصبحوا غداة هذه الليلة، واختلط بعضهم ببعض يستخرجون قتلاهم ويدفنونهم.
ثم إن عليا قام من صبيحة ليلة الهرير في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس، إنه قد بلغ بكم وبعدوكم الأمر إلى ما ترون، ولم يبق من القوم إلا آخر نفس، فتأهبوا رحمكم الله لمناجزة عدوكم غدا، حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين).
وبلغ ذلك معاوية، فقال لعمرو: (ما ترى، فإنما هو يومنا هذا وليلتنا هذه؟)، فقال عمرو: (إني قد أعددت بحيلتي أمرا أخرته إلى هذا اليوم، فإن قبلوه اختلفوا، وإن ردوه تفرقوا، قال معاوية: (وما هو؟) قال عمرو: (تدعوهم إلى كتاب الله حكما بينك وبينهم، فإنك بالغ به حاجتك). فعلم معاوية أن الأمر كما قال.
قالوا: وأن الأشعث بن قيس قال لقومه، وقد اجتمعوا إليه: (قد رأيتم ما كان في اليوم الماضي من الحرب المبيرة (3). وأنا والله إن التقينا غدا، إنه لبوار العرب وضيعة الحرمات).