رأى صدرا خارجا قال له تأخر، وكان نزوله في جانب الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة، وقال: ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا، وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أثبتوا في هذا المقام، فإذا عاينوكم ولوكم الأدبار، فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لما خالف رأى عبد الله بن أبي شق عليه ذلك، وقال: أطاع الولدان وعصاني، ثم قال لأصحابه: إن محمدا إنما يظفر بعدوه بكم، وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعوكم، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد عليه السلام، فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بالمنافقين، وكان جملة عسكر المسلمين ألفا، فانهزم عبد الله بن أبي مع ثلثمائة، فبقيت سبعمائة، ثم قواهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم، وكان الله تعالى بشرهم بذلك، طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر، فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع، وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أراهم ما يحبون، فأراد الله تعالى أن يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول عليه السلام وليعلموا أن ظفرهم إنما حصل يوم بدو ببركة طاعتهم لله ولرسوله، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين، فكثر عليهم المشركون وتفرق العسكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: * (إذا تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم) * (آل عمران: 153) وشج وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه، ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وسعد، ووقعت الصيحة في العسكر أن محمدا قد قتل، وكان رجل يكنى أبا سفيان من الأنصار نادى الأنصار وقال: هذا رسول الله، فرجع إليه المهاجرون والأنصار، وكان قتل منهم سبعون وكثر فيهم الجراح، فقال صلى الله عليه وسلم: " رحم الله رجلا ذب عن إخوانه " وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى والله أعلم.
والمقصود من القصة أن الكفار كانوا ثلاثة آلاف المسلمون كانوا ألفا وأقل، ثم رجع عبد الله بن أبي معم ثلثمائة بن أصحابه فبقى الرسول صلى الله عليه وسلم مع سبعمائة، فأعانهم الله حتى هزموا الكفار، ثم لما خالفوا أمر الرسول واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الامر عليهم وانهزموا ووقع ما وقع، وكل ذلك يؤكد قوله تعالى (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) وأن المقبل من أعانه الله، والمدبر من خذله الله.
(المسألة الرابعة) يقال: بوأته منزلا، وبوأت له منزلا. أي أنزلته فيه، والمباءة والباءة المنزل