المسألة الثانية: * (اصطفى) * في اللغة اختار، فمعنى: اصطفاهم، أي جعلهم صفوة خلقه، تمثيلا بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة، ويقال على ثلاثة أوجه: صفوة، وصفوة وصفوة، ونظير هذه الآية قوله لموسى * (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي) * (الأعراف: 144) وقال في إبراهيم * (وإسحق ويعقوب وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) * (ص: 47).
إذا عرفت هذا فنقول. في الآية قولان الأول: المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعا إلى دينهم وشرعهم وملتهم، ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني: أن يكون المعنى: إن الله اصطفاهم، أي صفاهم من الصفات الذميمة، وزينهم بالخصال الحميدة، وهذا القول أولى لوجهين أحدهما: أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار والثاني: أنه موافق لقوله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) * (الأنعام: 124) وذكر الحليمي في كتاب " المنهاج " أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي إما مدركة، وإما محركة.
أما المدركة: فهي إما الحواس الظاهرة، وإما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة أحدها: القوة الباصرة، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصا بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: " زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها " والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: " أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري " ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * (الأنعام: 75) ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل قال الحليمي رحمه الله: وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بصر النبي صلى الله عليه وسلم أقوى من بصرها وثانيها: القوة السامعة، وكان صلى الله عليه وسلم أقوى الناس في هذه القوة، ويدل عليه وجهان أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: " أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى " فسمع أطيط السماء والثاني: أنه سمع دويا وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن، قال الحليمي: ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا، فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيف الفلك، ونظير هذه القوة لسليمان عليه السلام في قصة النمل * (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) * (النمل: 18) فالله تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضا في باب تقوية الفهم، وكان ذلك حاصلا لمحمد صلى الله عليه وسلم حين تكلم مع