أما قوله تعالى: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الاغماض في اللغة غض البصر، وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض، وهو الخفاء يقال: هذا الكلام غامض أي خفي الإدراك والغمض المتطامن الخفي من الأرض.
المسألة الثانية: في معنى الإغماض في هذه الآية وجوه الأول: أن المراد بالإغماض هاهنا المساهلة، وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضا، فقوله * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * يقول لو أهدى إليكم مثل هذه الأشياء لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم والثاني: أن يحمل الإغماض على المتعدى كما تقول: أغمضت بصر الميت وغمضته والمعنى ولستم بآخذيه إلا إذا أغمضتم بصر البائع يعني أمرتموه بالإغماض والحط من الثمن.
ثم ختم الآية بقوله * (واعلموا أن الله غني حميد) * والمعنى أنه غني عن صدقاتكم، ومعنى حميد، أي محمود على ما أنعم بالبيان وفيه وجه آخر، وهو أن قوله * (غني) * كالتهديد على إعطاء الأشياء الرديئة في الصدقات و * (حميد) * بمعنى حامد أي أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات وهو كقوله * (فأولئك كان سعيهم مشكورا) *.
قوله تعالى * (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشآء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) *.
إعلم أنه تعالى لما رغب الإنسان في إنفاق أجود ما يملكه حذره بعد ذلك من وسوسة الشيطان فقال: * (الشيطان يعدكم الفقر) * أي يقال إن أنفقت الأجود صرت فقيرا فلا تبال بقوله فإن الرحمن * (يعدكم مغفرة منه وفضلا) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في الشيطان فقيل إبليس وقيل سائر الشياطين وقيل شياطين الجن والإنس وقيل النفس الأمارة بالسوء. المسألة الثانية: الوعد يستعمل في الخير والشر، قال الله تعالى: * (النار وعدها الله الذين كفروا) * (الحج: 72) ويمكن أن يكون هذا محمولا على التهكم، كما في قوله * (فبشرهم بعذاب أليم) *.