الآخرة أكثرها محجوبة عنا ما دمنا في الدنيا، وأما معنى الفضل فهو الخلف المعجل في الدنيا، وهذا الفضل يحتمل عندي وجوها أحدها: أن المراد من هذا الفضل الفضيلة الحاصلة للنفس وهي فضيلة الجود والسخاء، وذلك لأن مراتب السعادة ثلاث: نفسانية، وبدنية، وخارجية، وملك المال من الفضائل الخارجية وحصول خلق الجود والسخاوة من الفضائل النفسانية وأجمعوا على أن أشرف هذه المراتب الثلاث: السعادات النفسانية، وأخسها السعادات الخارجية فمتى لم يحصل إنفاق المال كانت السعادة الخارجية حاصلة والنقيضة النفسانية معها حاصلها ومتى حصل الإنفاق حصل الكمال النفساني والنقصان الخارجي ولا شك أن هذه الحالة أكمل، فثبت أن مجرد الإنفاق يقتضي حصول ما وعد الله به من حصول الفضل والثاني: وهو أنه متى حصل ملكة الإنفاق زالت عن الروح هيئة الاشتغال بلذات الدنيا والتهالك في مطالبها، ولا مانع للروح من تجلي نور جلال الله لها إلا حب الدنيا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " لولا أن الشياطين يوحون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات " وإذا زال عن وجه القلب غبار حب الدنيا استنار بأنوار عالم القدس وصار كالكوكب الدري والتحق بأرواح الملائكة، وهذا هو الفضل لا غير والثالث: وهو أحسن الوجوه: أنه مهما عرف من الإنسان كونه منفقا لأمواله في وجوه الخيرات مالت القلوب إليه فلا يضايقونه في مطالبه، فحينئذ تنفتح عليه أبواب الدنيا، ولأن أولئك الذين أنفق ماله عليهم يعينونه بالدعاء والهمة فيفتح الله عليه أبواب الخير.
ثم ختم الآية بقوله * (والله واسع عليم) * أي أنه واسع المغفرة، قادر على إغنائكم، وإخلاف ما تنفقونه وهو عليم لا يخفى عليه ما تنفقون، فهو يخلفه عليكم.
قوله تعالى * (يؤتى الحكمة من يشآء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب) *.
إعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل، ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما