وأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها، لأن دلائل المباحث الإلهية لا تختلف في ذلك، فهو مصدق لها في الأخبار الواردة في التوراة والإنجيل.
ثم قال الله تعالى: * (وأنزل التوراة والإنجيل) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": التوراة والإنجيل اسمان أعجميان، والاشتغال باشتقاقهما غير مفيد، وقرأ الحسن * (والأنجيل) * بفتح الهمزة، وهو دليل على العجمية، لأن أفعيل بفتح الهمزة معدوم في أوزان العرب، واعلم أن هذا القول هو الحق الذي لا محيد عنه، ومع ذلك فننقل كلام الأدباء فيه.
أما لفظ * (التوراة) * ففيه أبحاث ثلاثة:
البحث الأول: في اشتقاقه، قال الفراء * (التوراة) * معناها الضياء والنور، من قول العرب ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت النار، قال الله تعالى: * (فالموريات قدحا) * (العاديات: 2) ويقولون: وريت بك زنادي، ومعناه: ظهر بك الخير لي، فالتوراة سميت بهذا الاسم لظهور الحق بها، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء) * (الأنبياء: 48).
البحث الثاني: لهم في وزنه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال الفراء: أصل * (التوراة) * تورية تفعلة بفتح التاء، وسكون الواو، وفتح الراء والياء، إلا أنه صارت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
القول الثاني: قال الفراء: ويجوز أن تكون تفعلة على وزن ترفية وتوصية، فيكون أصلها تورية، إلا أن الراء نقلت من الكسر إلى الفتح على لغة طيئ، فإنهم يقولون في جارية: جاراة، وفي ناصية: ناصاة، قال الشاعر: فما الدنيا بباقاة لحيو * ما حي على الدنيا بباق والقول الثالث: وهو قول الخليل والبصريين: إن أصلها: وورية، فوعلة، ثم قلبت الواو الأولى تاء، وهذا القلب كثير في كلامهم، نحو: تجاه، وتراث، وتخمة، وتكلان، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت * (توراة) * وكتبت بالياء على أصل الكلمة، ثم طعنوا في قول الفراء، أما الأول: فقالوا: هذا البناء نادر، وأما فوعلة فكثير، نحو: صومعة، وحوصلة، ودوسرة والحمل على الأكثر أولى، وأما الثاني: فلأنه لا يتم إلا بحمل اللفظ على لغة طيئ، والقرآن ما نزل بها البتة.
البحث الثالث: في التوراة قراءتان: الإمالة والتفخيم، فمن فخم فلأن الراء حرف يمنع الإمالة لما فيه من التكرير، والله أعلم.