فالتجارة تجارة حاضرة، فقوله * (إلا أن تكون تجارة حاضرة) * لا يمكن حمله على ظاهره، بل المراد من التجارة ما يتجر فيه من الإبدال، ألا ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يدا بيد، ثم قال: * (فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها) * (البقرة: 282) معناه: لا مضرة عليكم في ترك الكتابة، ولم يرد الإثم عليكم لأنه لو أراد الإثم لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم، ويأثم صاحب الحق بتركها، وقد ثبت خلاف ذلك وبيان أنه لا مضرة عليهم في تركها ما قدمناه.
ثم قال تعالى: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * وأكثر المفسرين قالوا: المراد أن الكتابة وإن رفعت عنهم في التجارة إلا أن الاشهاد ما رفع عنهم، لأن الإشهاد بلا كتابة أخف مؤنة، ولأن الحاجة إذا وقعت إليها لا يخاف فيها النسيان.
واعلم أنه لا شك أن المقصود من هذا الأمر الإرشاد إلى طريق الاحتياط. ثم قال تعالى: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * واعلم أنه يحتمل أن يكون هذا نهيا للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق، أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط، وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع، ويحتمل أن يكون نهيا لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد، بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما والأول: قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة، والثاني: قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد.
واعلم أن كلا الوجهين جائز في اللغة، وإنما احتمل الوجهين بسبب الإدغام الواقع في * (لا يضار) * أحدهما: أن يكون أصله لا يضارر، بكسر الراء الأولى، فيكون الكاتب والشهيد هما الفاعلان للضرار والثاني: أن يكون أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى، فيكون هما المفعول بهما الضرار ونظير هذه الآية التي تقدمت في هذه السورة، وهو قوله * (لا تضار والدة بولدها) * وقد أحكمنا بيان هذا اللفظ هناك، والدليل على ما ذكرنا من احتمال الوجهين قراءة عمر رضي الله عنه * (ولا يضارر) * بالإظهار والكسر، وقراءة ابن عباس * (ولا يضارر) * بالإظهار والفتح، واختار الزجاج القول الأول، واحتج عليه بقوله تعالى بعد ذلك * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم قال: وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أضر الكاتب والشهيد، ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشهادة * (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * (البقرة: 283) والإثم والفاسق متقاربان، واحتج من نصر القول الثاني بأن هذا لو كان خطابا للكاتب والشهيد لقيل: وإن تفعلا فإنه فسوق بكم، وإذا كان هذا خطابا للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم والله أعلم.