من أولي الألباب، لأنه لم يقف عند المسببات، بل ترقى منها إلى أسبابها، فهذا الانتقال من المسبب إلى السبب هو التذكر الذي لا يحصل إلا لأولي الألباب، وأما من أضاف هذه الأحوال إلى نفسه، واعتقد أنه هو السبب في حصولها وتحصيلها، كان من الظاهر بين الذين عجزوا عن الانتقال من المسببات إلى الأسباب، وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل، قالوا: هذه الحكمة لا تقوم بنفسها، وإنما ينتفع بها المرء بأن يتدبر ويتفكر، فيعرف ماله وما عليه، وعند ذلك يقدم أو يحجم.
* (ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الإنفاق يجب أن يكون من أجود المال، ثم حث أولا: بقوله * (ولا تيمموا الخبيث) * (البقرة: 267) وثانيا: بقوله * (الشيطان يعدكم الفقر) * (البقرة: 268) حيث عليه ثالثا: بقوله * (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله * (فإن الله يعلمه) * على اختصاره، يفيد الوعد العظيم للمطيعين، والوعيد الشديد للمتمردين، وبيانه من وجوه أحدها: أنه تعالى عالم بما في قلب المتصدق من نية الإخلاص والعبودية أو من نية الرياء والسمعة وثانيها: أن علمه بكيفية نية المتصدق يوجب قبول تلك الطاعات، كما قال: * (إنما يتقبل الله من المتقين) * (المائدة: 27) وقوله * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7، 8) وثالثها: أنه تعالى يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئا منها، ولا يشتبه عليه شيء منها.
المسألة الثانية: إنما قال: * (فإن الله يعلمه) * ولم يقل: يعلمها، لوجهين الأول: أن الضمير عائد إلى الأخير، كقوله * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) * وهذا قول الأخفش، والثاني: أن الكتابة عادت إلى ما في قوله * (وما أنفقتم من نفقة) * لأنها اسم كقوله * (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) * (البقرة: 231).
المسألة الثالثة: النذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه يقال: نذر ينذر، وأصله من الخوف لأن الإنسان إنما يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده، وأنذرت القوم إنذارا