والاحتمال الثاني: أن يكون متعلقا بما بعده، والتقدير: ولا يأب كاتب أن يكتب، وهاهنا تم الكلام، ثم قال بعده * (كما علمه الله فليكتب) * فيكون الأول أمرا بالكتابة مطلقا ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إياها، والوجهان ذكرهما الزجاج.
الشرط الثاني في الكتابة: قوله تعالى: * (وليملل الذي عليه الحق) * وفيه مسألتان؛ المسألة الأولى: أن الكتابة وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشروط والسجلات لكن ذلك لا يتم إلا بإملاء من عليه الحق فليدخل في جملة إملائه اعترافه بما عليه من الحق في قدره وجنسه وصفته وأجله إلى غير ذلك، فلأجل ذلك قال تعالى: * (وليملل الذي عليه الحق) *.
المسألة الثانية: الأملال والإملاء لغتان، قال الفراء: أمللت عليه الكتاب لغة أهل الحجاز وبني أسد، وأمليت لغة تميم وقيس، ونزل القرآن باللغتين قال تعالى في اللغة الثانية * (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) * (الفرقان: 5).
ثم قال: * (وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا) * وهذا أمر لهذا المملى الذي عليه الحق بأن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئا.
ثم قال تعالى: * (وإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) * والمعنى أن من عليه الدين إذا لم يكن إقراره معتبرا فالمعتبر هو إقرار وليه.
ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: إدخال حرف * (أو) * بين هذه الألفاظ الثلاثة، أعني السفيه، والضعيف، ومن لا يستطيع أن يمل يقتضي كونها أمورا متغايرة، لأن معناه أن الذي عليه الحق إذا كان موصوفا بإحدى هذه الصفات الثلاث فليملل وليه بالعدل، فيجب في الثلاثة أن تكون متغايرة، وإذا ثبت هذا وجب حمل السفيه على الضعيف الرأي ناقص العقل من البالغين، والضعيف على الصغير والمجنون والشيخ الخرف، وهم الذين فقدوا العقل بالكلية، والذي لا يستطيع لأن يمل من يضعف لسانه عن الإملاء لخرس، أو جهله بماله وما عليه، فكل هؤلاء لا يصح منهم الإملاء والإقرار، فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم، فقال تعالى: * (فليملل وليه بالعدل) * والمراد ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة، لأن ولي المحجور السفيه، وولي الصبي: هو الذي يقر عليه بالدين، كما يقرب بسائر أموره، وهذا هو القول الصحيح، وقال ابن عباس ومقاتل والربيع: المراد بوليه ولي الدين يعني أن الذي له الدين يملي وهذا بعيد، لأنه كيف يقبل قول المدعي، وإن كان قوله معتبرا، فأي حاجة بنا إلى الكتابة والإشهاد.