بأن يجره إلى الوسط، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام انقطع طمعه عنه، وإن أطاعه فيه طمع في أن يجره من الوسط إلى الطرف الفاحش، فالوسط هو قوله تعالى: * (يعدكم الفقر) * والطرف الفاحش قوله * (ويأمركم بالفحشاء) * ثم لما ذكر سبحانه وتعالى درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال: * (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) * فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة، والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلق، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أن الملك ينادي كل ليلة " اللهم أعط كل منفق خلفا وكل ممسك تلفا ".
وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يعدك الفقر في غد دنياك، والرحمن يعدك المغفرة في غد عقباك، ووعد الرحمن في غد العقبى أولى بالقبول من وجوه أحدها: أن وجدان غد الدنيا مشكوك فيه، ووجدان غد العقبى متيقن مقطوع به وثانيها: أن بتقدير وجدان غد الدنيا، فقد يبقى المال المبخول به، وقد لا يبقى وعند وجدان غد العقبى لا بد من وجدان المغفرة الموعود بها من عند الله تعالى، لأنه الصادق الذي يمتنع وجود الكذب في كلامه وثالثها: أن بتقدير بقاء المال المبخول به في غد الدنيا، فقد يتمكن الإنسان من الانتفاع به وقد لا يتمكن إما بسبب خوف أو مرض أو اشتغال بمهم آخر وعند وجدان غد العقبى الانتفاع حاصل بمغفرة الله وفضله وإحسانه ورابعها: أن بتقدير حصول الانتفاع بالمال المبخول به غد الدنيا لا شك أن ذلك الانتفاع ينقطع ولا يبقى، وأما الانتفاع بمغفرة الله وفضله وإحسانه فهو الباقي الذي لا ينقطع ولا يزول، وخامسها: أن الانتفاع بلذات الدنيا مشوب بالمضار، فلا ترى شيئا من اللذات إلا ويكون سببا للمحنة من ألف وجه بخلاف منافع الآخرة فإنها خالصة عن الشوائب، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن الانقياد لوعد الرحمن بالفضل والمغفرة أولى من الانقياد لوعد الشيطان.
إذا عرفت هذا فنقول: المراد بالمغفرة تكفير الذنوب كما قال: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * (التوبة: 103) وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة أحدها: التنكير في لفظة المغفرة، والمعنى مغفرة أي مغفرة والثاني: قوله * (مغفرة منه) * فقوله * (منه) * يدل على كمال حال هذه المغفرة لأن كمال كرمه ونهاية جوده معلوم لجميع العقلاء وكون المغفرة منه معلوم أيضا لكل أحد فلما خص هذه المغفرة بأنها منه علم أن المقصود تعظيم حال هذه المغفرة، لأن عظم المعطي يدل على عظم العطية، وكمال هذه المغفرة يحتمل أن يكون المراد منه ما قاله في آية أخرى * (فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات) * (الفرقان: 70) ويحتمل أن يكون المراد منه أن يجعله شفيعا في غفران ذنوب سائر المذنبين، ويحتمل أن يكون كمال تلك المغفرة أمرا لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا فإن تفاصيل أحوال