أن قوله * (كالذي ينفق ماله) * إنما أشير به إلى الجنس، والجنس في حكم العام، قال القفال رحمه الله: وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون ذلك مردودا على قوله * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) * فإنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم، فرجع عن الخطاب إلى الغائب، كقوله تعالى: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجزين بهم) * (يونس: 22).
ثم قال: * (والله لا يهدي القوم الكافرين) * ومعناه على قولهم: سلب الإيمان، وعلى قول المعتزلة: إنه تعالى يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسوء اختيارهم.
ثم قال تعالى: * (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) *.
إعلم أن الله تعالى لما ذكر مثل المنفق الذي يكون مانا ومؤذيا ذكر مثل المنفق الذي لا يكون كذلك، وهو هذه الآية، وبين تعالى أن غرض هؤلاء المنفقين من هذا الانفاق أمران أحدهما: طلب مرضاة الله تعالى، والابتغاء افتعال من بغيت أي طلبت، وسواء قولك: بغيت وابتغيت.
والغرض الثاني: هو تثبيت النفس، وفيه وجوه أحدها: أنهم يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها، ومن جملة ذلك ترك اتباعها بالمن والأذى، وهذا قول القاضي وثانيها: وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه، ويعضده قراءة مجاهد * (وتثبيتا من بعض أنفسهم) * وثالثها: أن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية، إلا إذا صارت مقهورة بالمجاهدة، ومعشوقها أمران: الحياة العاجلة والمال، فإذا كلفت بإنفاق المال فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه، وإذا كلفت يبذل الروح فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه فلا جرم حصل بعض التثبيت، فلهذا دخل فيه * (من) * التي هي التبعيض، والمعنى أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها، وهو المراد من قوله * (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) * (الصف: 11) وهذا الوجه ذكره صاحب " الكشاف "، وهو كلام حسن وتفسير لطيف ورابعها: وهو الذي خطر ببالي وقت كتابة هذا الموضع: أن ثبات القلب لا يحصل إلا بذكر الله على ما قال: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) فمن أنفق ماله في سبيل الله لم يحصل له اطمئنان القلب في مقام التجلي، إلا إذا كان إنفاقه لمحض غرض العبودية، ولهذا السبب حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال في إنفاقه * (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) * (الإنسان: 9) ووصف إنفاق أبي بكر فقال: * (وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء