فإنه أمانة في يده، والوجه هو الأول.
المسألة الثانية: من الناس من قال: هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن، واعلم أن التزام وقوع النسخ من غير دليل يلجئ إليه خطأ، بل تلك الأوامر محمولة على الإرشاد ورعاية الاحتياط، وهذه الآية محمولة على الرخصة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس في آية المداينة نسخ، ثم قال: * (ولا تكتموا الشهاد) * وفي التأويل وجوه:
الوجه الأول: قال القفال رحمه الله: إنه تعالى لما أباح ترك الكتابة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أمينا، ثم كان من الجائز في هذا المديون أن يخلف هذا الظن، وأن يخرج خائنا جاحدا للحق، إلا أنه من الجائز أن يكون بعض الناس مطلعا على أحوالهم، فههنا ندب الله تعالى ذلك الإنسان إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمان تلك الشهادة سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة، أو لم يعرف وشدد فيه بأن جعله آثم القلب لو تركها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يدل على صحة هذا التأويل، وهو قوله " خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد ".
الوجه الثاني: في تأويل أن يكون المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة، ونظيره قوله تعالى: * (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) * (البقرة: 140) والمراد الجحود وإنكار العلم.
الوجه الثالث: في كتمان الشهادة والامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها، وقد تقدم ذلك في قوله * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * (البقرة: 282) وذلك لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة فقد بطل حقه، وكان هو بالامتناع من الشهادة كالمبطل لحقه، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه، فهذا بالغ في الوعيد.
ثم قال: * (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الآثم الفاجر، روي أن عمر كان يعلم أعرابيا * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) * (الدخان: 43، 44) فكان يقول: طعام اليتيم، فقال له عمر: طعام الفاجر. فهذا يدل على أن الآثم بمعنى الفجور.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": آثم خبر إن وقلبه رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل فإنه يأثم قلبه وقرئ * (قلبه) * بالفتح كقوله * (سفه نفسه) * (البقرة: 130) وقرأ ابن أبي عبلة * (أثم قلبه) * أي جعله آثما.
المسألة الثالثة: إعلم أن كثيرا من المتكلمين قالوا. إن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي هو القلب، وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله تعالى: * (نزل به الروح الأمين