النفس قد بطلت، ومنازعة النفس قد اضمحلت، فإذا أعلن به فإنما يريد به أن يقتدي به غيره فهذا عبد كملت ذاته فسعى في تكميل غيره ليكون تاما وفوق التمام، ألا ترى أن الله تعالى أثنى على قوم في تنزيله وسماهم عباد الرحمن، وأوجب لهم أعلى الدرجات في الجنة، فقال: * (أولئك يجزون الغرفة) * (الفرقان: 75) ثم ذكر من الخصال التي طلبوها بالدعاء أن قالوا * (واجعلنا للمتقين إماما) * (الفرقان: 74) ومدح أمة موسى عليه السلام فقال: * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * (الأعراف: 159) ومدح أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * (آل عمران: 110) ثم أبهم المنكر فقال: * (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * (الأعراف: 181) فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يهتدون في الذهاب إلى الله.
فإن قيل: إن كان الأمر على ما ذكرتم فلم رجح الإخفاء على الإظهار في قوله * (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) *.
والجواب: من وجهين الأول: لا نسلم قوله * (فهو خير لكم) * يفيد الترجيح فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن إعطاء الصدقة حال الاخفاء خير من الخيرات، وطاعة من جملة الطاعات، فيكون المراد منه بيان كونه في نفسه خيرا وطاعة، لا أن المقصود منه بيان الترجيح.
والوجه الثاني: سلمنا أن المراد منه الترجيح، لكن المراد من الآية أنه إذا كانت الحال واحدة في الإبداء والإخفاء، فالأفضل هو الإخفاء، فأما إذا حصل في الإبداء أمر آخر لم يبعد ترجيح الإبداء على الإخفاء.
البحث الثاني: أن الإظهار في إعطاء الزكاة الواجبة أفضل، ويدل عليه وجوه الأول: أن الله تعالى أمر الأئمة بتوجيه السعاة لطلب الزكاة، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها وثانيها: أن في إظهارها نفي التهمة، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة فإذا اختلف حكم فرض الصلاة ونفلها في الإظهار والإخفاء لنفي التهمة، فكذا في الزكاة وثالثها: أن إظهارها يتضمن المسارعة إلى أمر الله تعالى وتكليفه، وإخفاءها يوهم ترك الالتفات إلى أداء الواجب فكان الإظهار أولى، هذا كله في بيان قول من قال المراد بالصدقات المذكورة في هذه الآية صدقة التطوع فقط.
القول الثاني: وهو قول الحسن البصري أن اللفظ متناول للواجب والمندوب، وأجاب عن قول من قال: الإظهار في الواجب أولى من وجوه الأول: أن إظهار زكاة الأموال توجب