يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم، ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل، وحكم الحس والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول، فهذا هو الإشارة إلى وجه النظم. بقي في الآية مسائل:
المسألة الأولى: المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب يروى عن مقاتل أنه قال: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها: مواعظ القرآن، قال في البقرة * (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) * يعني مواعظ القرآن وفي النساء * (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) * يعني المواعظ، ومثلها في آل عمران وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم، ومنه قوله تعالى: * (وآتيناه الحكم صبيا) * (مريم: 12) وفي لقمان * (ولقد آتينا لقمان الحكمة) * (لقمان: 12) يعني الفهم والعلم وفي الأنعام * (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم) * (الأنعام: 89) وثالثها: الحكمة بمعنى النبوة في النساء * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة) * (النساء: 54) يعني النبوة، وفي ص * (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) * (ص: 20) يعني النبوة، وفي البقرة * (وآتاه الله الملك والحكمة) * (البقرة: 251) ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحل * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) * (النحل: 125) وفي هذه الآية * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * (البقرة: 269) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم، ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم، قال تعالى: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسراء: 85) وسمى الدنيا بأسرها قليلا، فقال: * (قل متاع الدنيا قليل) * (النساء: 77) وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير، والبرهان العقلي أيضا يطابقه لأن الدنيا متناهية المقدار، متناهية المدة، والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها، والسعادة الحاصلة منها، وذلك ينبئك على فضيلة العلم والاستقصاء في هذا الباب قد مر في تفسير قوله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * (البقرة: 31) وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب فقيل في حدها: إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية، ومداد هذا المعنى على قوله صلى الله عليه وسلم: " تخلقوا بأخلاق الله تعالى " واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين، وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين: أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، فالمرجع بالأول: إلى العلم والإدراك المطابق، وبالثاني: إلى فعل العدل والصواب، فحكي عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قوله * (رب هب لي حكما) * (الشعراء: 83) وهو الحكمة النظرية * (وألحقني بالصالحين) * (الشعراء: 83) الحكمة العملية، ونادى موسى عليه السلام فقال: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا) * وهو الحكمة النظرية، ثم قال: * (فاعبدني) * وهو الحكمة العملية، وقال عن عيسى عليه السلام إنه قال: * (إني عبد الله) * (مريم: 30) الآية، وكل ذلك للحكمة النظرية، ثم قال: * (وأوصاني