وهو أنهم لما اعتادوا نوعا واحدا من العبادة صاروا كالمجبورين على الشئ الذي لا يقدرون على خلافه على ما قيل: العادة طبيعة خامسة، فيكون ذلك النوع في نهاية السهولة عليهم، ولذلك فان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال في الصوم وقال (أفضل الصوم صوم داود عليه السلام) وهو أن يصوم يوما ويفطر يوما. وثالثها: قالوا عبادات الملائكة أدوم فكانت أفضل بيان أنها أدوم قوله سبحانه وتعالى (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) وعلى هذا لو كانت أعمارهم مساوية لأعمار البشر لكانت طاعاتهم أدوم وأكثر فكيف ولا نسبة لعمر لكل البشر إلى عمر الملائكة على ما تقدم بيانه في باب صفاته الملائكة وعلى هذه الآية سؤال: روى في شعب الايمان عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: قلت لكعب أرأيت قول الله تعالى (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) ثم قال (جاعل الملائكة والناس أجمعين) فكيف يكونن مشتغلين باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح؟ أجاب كعب الاخبار فقال: التسبيح لهم كالتنفس لنا فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال. وأقول: لقائل أن يقول الاشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام لان آلة التنفس غير آلة الكلام أما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام فاجتماعهما في الآية الواحدة محال. والجواب الأول، أي استبعاد في أن يخلق الله تعالى لهم ألسنة كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداء الله تعالى بالبعض الآخر. والجواب الثاني: اللعن هو الطرد والتبعيد، والتسبيح هو الخوص في ثناء الله تعالى ولا شك أن ثناء الله يستلزم تبعيد من اعتقد في الله مالا ينبغي فكان ذلك اللعن من لوازمه. والجواب الثالث، قوله (لا يفترون) معناه أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال إن فلانا مواظب على الجماعات لا يفتر عنها لا يراد به أنه أبدا مشتغل بها بل يراد به أنه مواظب على العزم أبدا على أدائها في أوقاتها وإذا ثبت أن عباداتهم أدوم وجب أن تكون أفضل. أما أولا فلان الأدوم أشق فيكون أفضل على ما سبق تقريره في الحجة الثانية. وأما ثانيا: فلقوله عليه السلام أفضل العباد من طال عمره وحسن عمله والملائكة صلوات الله عليهم أطول العباد أعمارا وأحسنهم أعمالا فوجب أن يكونوا أفضل العباد لأنه عليه السلام قال الشيخ في قومه كالنبي في أمته وهذا يقتضى أن يكونوا في البشر كالنبي في الأمة وذلك يوجب فضلهم على البشر. ولقائل أن يقول إن نوحا عليه السلام وكذا لقمان وكذا الخضر كانوا أطول عمرا من محمد صلى الله عليه وسلم فوجب أن يكونوا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم وذلك باطل بالاتفاق فبطل ما قالوه وقد نجد في الأمة من هو أطول عمرا وأشد اجتهادا من النبي صلى الله عليه وسلم وهو منه أبعد في الدرجة من العرش إلى ما تحت الثرى. والتحقيق فيه ما بينا أن كثرة الثواب إنما تحصل لأمر يرجع إلى الدواعي والقصود فيجوز أن تكون الطاعة القليلة تقع من الانسان على وجه يستحق بها ثوابا كثيرا والطاعات الكثيرة تقع على وجه لا يستحق بها
(٢١٨)