المعين والناصر، وأوثانهم وأكابرهم مشتركة في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصارا لهم وأعوانا، وإذا حملنا اللفظ على هذا المفهوم المشترك دخل الكل فيه وأما الثاني فنقول: الأولى حمله على الأكابر، وذلك لأن لفظ الشهداء لا يطلق ظاهرا إلا على من يصح أن يشاهد ويشهد فيتحمل بالمشاهدة ويؤدي الشهادة، وذلك لا يتحقق إلا في حق رؤسائهم، أما إذا حملناه على الأوثان لزم المجاز، في إطلاق لفظ الشهداء على الأوثان أو يقال: المراد وادعوا من تزعمون أنهم شهداؤكم، والإضمار خلاف الأصل، أما إذا حملنا على الوجه الأول صح الكلام، لأنه يصير كأنه قال: وادعوا من يشهد بعضكم لبعض لاتفاقكم على هذا الإنكار. فإن المتفقين على المذهب يشهد بعضهم لبعض لمكان الموافقة فصحت الإضافة في قوله شهداءكم، ولأنه كان في العرب أكابر يشهدون على المتنازعين في الفصاحة بأن أيهما أعلى درجة من الآخر، وإذا ثبت ذلك ظهر أن حمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.
المسألة الثامنة: أما (دون) فهو أدنى مكان من الشيء ومنه الشيء الدون، وهو الحقير الدني، ودون الكتب إذا جمعها لأن جمع الشيء أدناه بعضه من بعض ويقال:
هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلا، ودونك هذا، أصله خذه من دونك أي من أدنى مكان منك فاختصر ثم استعير هذا اللفظ للتفاوت في الأحوال، فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل ما يجاوز حدا إلى حد، قال الله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * (آل عمران: 28) أي لا يتجاوزون ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين فإن قيل فما متعلق من دون الله قلنا فيه وجهان: أحدهما: أن متعلقه " شهداءكم " وهذا فيه احتمالان: الأول: المعنى ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم، والثاني: ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله، وهذا من المساهلة والإشعار بأن شهداءهم وهم فرسان الفصاحة تأبى عليهم الطبائع السليمة أن يرضوا لأنفسهم بالشهادة الكاذبة وثانيهما: أن متعلقه هو الدعاء، والمعنى ادعوا من دون الله شهداءكم، يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله يشهد أن ما ندعيه حق، كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينه تصحح بها الدعاوى عند الحكام، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم، وأنه لم يبق لهم متشبث عن قولهم: الله يشهد إنا لصادقون.
المسألة التاسعة: قال القاضي هذا التحدي يبطل القول بالجبر من وجوه: أحدها: أنه مبني على تعذر مثله ممن يصح الفعل منه، فمن ينفي كون العبد فاعلا لم يمكنه إثبات التحدي أصلا وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز. وثانيها: أن تعذره على قولهم يكون لفقد القدرة