فكان تقرير الجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر - الذي هو هدى - موضع الوصف الذي هو هاد، وإيراده منكرا.
اعلم أن فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: * (الذين يؤمنون) * أما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو منصوب أو مدح مرفوع بتقدير أعني الذين يؤمنون، أو هم الذين، وإما منقطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه * (أولئك على هدى) * فإذا كان موصولا كان الوقف على المتقين حسنا غير تام، وإذا كان منقطعا كان وقفا تاما.
المسألة الثانية: قال بعضهم: * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) * يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلا للحسنات وتاركا للسيئات، أما الفعل فأما أن يكون فعل القلب - وهو قوله: * (الذين يؤمنون) * - وأما أن يكون فعل الجوارح، وأساسه الصلاة والزكاة والصدقة؛ لأن العبادة أما أن تكون بدنية وأجلها الصلاة، أو مالية، وأجلها الزكاة؛ ولهذا سمي الرسول عليه السلام: " الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام " وأما الترك فهو داخل في الصلاة لقوله تعالى: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (العنكبوت: 45) والأقرب أن لا تكون هذه الأشياء تفسيرا لكونهم متقين؛ وذلك لأن كمال السعادة لا يحصل إلا بترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي، فالترك هو التقوى، والفعل إما فعل القلب، وهو الإيمان، أو فعل الجوارح، وهو الصلاة والزكاة، وإنما قدم التقوى الذي هو الترك على الفعل الذي هو الإيمان والصلاة والزكاة، لأن القلب كاللوح القابل لنقوش العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة، والروح يجب تطهيره أولا عن النقوش الفاسدة، حتى يمكن إثبات النقوش الجيدة فيه، وكذا القول في الأخلاق، فلهذا السبب قدم التقوى وهو ترك ما لا ينبغي، ثم ذكر بعده فعل ما ينبغي.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: الإيمان إفعال من الأمن، ثم يقال آمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنه من التكذيب والمخالفة، وأما تعديته بالباء فلتضمنه معنى " أقر وأعترف " وأما ما حكى أبو زيد: ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت، فحقيقته صرت ذا أمن، أي ذا سكون وطمأنينة وكلا الوجهين حسن في * (يؤمنون بالغيب) * أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق. وأقول: اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع ويجمعهم فرق أربع.