المسألة الرابعة: الحكيم يستعمل على وجهين: أحدهما: بمعنى العليم فيكون ذلك من صفات الذات، وعلى هذا التفسير نقول: إنه تعالى حكيم في الأزل. الآخر: أنه الذي يكون فاعلا لما لا اعتراض لأحد عليه. فيكون ذلك من صفات الفعل، فلا نقول إنه حكيم في الأزل والأقرب ههنا أن يكون المراد هو المعنى الثاني وإلا لزم التكرار، فكأن الملائكة قالت: أنت العالم بكل المعلومات فأمكنك تعليم آدم، وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه. وعن ابن عباس: أن مراد الملائكة من الحكيم، أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض.
المسألة الخامسة: أن الله تعالى لما أمر آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء وهو عليه الصلاة والسلام أخبرهم بها فلما أخبرهم بها قال سبحانه وتعالى لهم عند ذلك: * (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض) * والمراد من هذا الغيب أنه تعالى كان عالما بأحوال آدم عليه السلام قبل أن يخلقه وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها، وذلك يدل على بطلان مذهب هشام بن الحكم في أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها، فإن قيل الإيمان هو العلم، فقوله تعالى: * ( يؤمنون بالغيب) * يدل على أن العبد يعلم الغيب فكيف قال ههنا: * (إني أعلم غيب السماوات والأرض) * والأشعار بأن علم الغيب ليس إلا لي وأن كل من سواي فهم خالون عن علم الغيب وجوابه ما تقدم في قوله: * (الذين يؤمنون بالغيب) * أما قوله: * (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * ففيه وجوه: أحدها: ما روى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أن قوله: * (واعلم ما تبدون) * أراد به قولهم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * وقوله: * (وما كنتم تكتمون) * أراد به ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وأن لا يسجد: وثانيها: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * من الأمور الغائبة والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها ولكني لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أن المصلحة في خلقها. وثالثها: أنه تعالى لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجيبا فقالوا ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أكرم عليه منه فهذا الذي كتموا ويجوز أن يكون هذا القول سرا أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان. ورابعها: وهو قول الحكماء أن الأقسام خمسة لأن الشيء إما أن يكون خيرا محضا أو شرا محضا أو ممتزجا وعلى تقدير الامتزاج فأما أن يعتدل الأمر أن أو يكون الخير غالبا أو يكون الشر غالبا أما الخير المحض فالحكمة تقتضي إيجاده وأما الذي يكون فيه الخير غالبا فالحكمة تقتضي إيجاده لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا الفساد والقتل وهو شر قليل بالنسبة إلى ما يحصل منهم من الخيرات فقوله: * (إني أعلم غيب السماوات والأرض) * فأعرف أن خيرهم غالب على هذه الشرور فاقتضت الحكمة إيجادهم وتكوينهم. المسألة السادسة: اعلم أن في هذه الآية خوفا عظيما وفرحا عظيما أما الخوف فلأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال الضمائر فيجب أن يجتهد المرء في تصفية باطنه وأن لا يكون