واللذات بل هم مقبلون على الطاعات الشاقة موصوفون الخوف الشديد والفزع العظيم وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوما واحدا فضلا عن تلك الاعصار المتطاولة ويؤكده قصة آدم عليه السلام، فإنه أطلق له في جميع مواضع الجنة بقوله (وكلا منها رغدا حيث شئتما) ثم منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه حتى وقع في الشر، وذلك يدل على أن طاعتهم أشق من طاعات البشر، وثانيها: أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من بستان إلى بستان، أما الإقامة على نوح واحد فإنها تورث المشقة والملالة ولهذا السبب جعلت التصانيف مقسومة بالأبواب والفصول، وجعل كتاب الله مقسوما بالسور والأحزاب والأعشار والأخماس، ثم إن الملائكة كل واحد منهم مواظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره على ما قاله سبحانه (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) وقال (وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون) وإذا كان كذلك كانت عبادتهم في نهاية المشقة، إذا ثبت ذلك وجب أن تكون عباداتهم أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام أفضل الأعمال أحمزها أي أشقها، وقوله لعائشة تحمله المشاق لأجل رضاه مولاه أكثر كان أحق بالتعظيم والتقديم. ولقائل أن يقول على الوجهين: هب أن مشقتهم أكثر فلم قلتم يجب أن يكون ثوابهم أكثر؟ وذلك لأنا نرى بعض الصوفية في زماننا هذا يتحملون في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتحمل بعض ذلك ثم إنا نقطع با، النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه ومن أمثاله، بل يحكى عن عباد الهند وزهادهم ورهبانهم أنهم يتحملون من المتاعب في التواضع لله تعالى ما لم يحك مثله عن أحد من الأنبياء والأولياء مع أنا نقطع بكفرهم، فعلمنا أن كثرة المشقة في العبادة لا تقتضي زيادة الثواب. وتحقيقه هو أن كثرة الثواب لا تحصل إلا بناء على الدواعي والقصود، فلعل الفعل الواحد يأتي به مكلفان على السواء فيما يتعلق بالافعال الظاهرة ويستحق أحدهما به ثوابا عظيما والآخر لا يستحق به إلا ثوابا قليلا، لما أن إخلاص أحدهما أشد وأكثر من إخلاص الثاني، فإذن كثرة العبادات ومشقتها لا تقتضي التفاوت في الفضل ثم نقول: لا نسلم أن عبادات الملائكة أشق، أما قوله في الوجه الأول: السماوات كالبساتين النزهة قلنا مسلم ولكن لم قلتم بأن الاتيان بالعبادة في المواضع الطيبة أشق من الاتيان بها في المواضع الرديئة؟ أكثر ما في الباب أن يقال: إنه قد يهيأ له أسباب التنعم فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعة على البشر ثم إنهم مع اجتماعها عليهم يرضون بقضاء الله ولا تغيرهم تلك المحن والآفات عن الخشوع له والمواظبة على عبوديته، وذلك أدخل في العبودية وذلك أن الخدم والعبيد تطيب قلوبهم بالخدمة حال ما يجدون من النعم والرفاهية ولا يصير أحد منهم حال المشقة على الخدمة إلا من كان في نهاية الاخلاص فما ذكروه بالعكس أولى، أما قوله، والمواظبة على نوح واحد من العبادة شاق، قلنا هذا معارض بوجه آخر
(٢١٧)