" ومشنوء من يشنؤك " أما الكوفيون فأنهم لا يجوزونه واحتجوا عليه من وجهين: الأول: المبتدأ ذات، والخبر صفة، والذات قبل الصفة بالاستحقاق، فوجب أن يكون قبلها في اللفظ قياسا على توابع الإعراب والجامع التبعية المعنوية. الثاني: أن الخبر لا بد وأن يتضمن الضمير، فلو قدم الخبر على المبتدأ لوجد الضمير قبل الذكر، وأنه غير جائز، لأن الضمير هو اللفظ الذي أشير به إلى أم معلوم، فقبل العلم به امتنعت الإشارة إليه، فكان الإضمار قبل الذكر محالا، أجاب البصريون على الأول بأن ما ذكرتم يقتضي أن يكون تقدم المبتدأ أولى، لا أن يكون واجبا وعن الثاني: أن الإضمار قبل الذكر واقع في كلام العرب، كقولهم: " في بيته يؤتى الحكم " قال تعالى: * (فأوجس في نفسه خيفة موسى) * (طه: 67) وقال زهير:
فمن يلق يوما على علاته هرما * يلق السماحة منه والندى خلقا والله أعلم.
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن الفعل لا يخبر عنه، لأن من قال: خرج ضرب لم يكن آتيا بكلام منتظم، ومنهم من قدح فيه بوجوه: أحدها: أن قوله: * (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * فعل وقد أخبر عنه بقوله: * (سواء عليهم) * ونظيره قوله: * (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) * (يوسف: 35) فاعل " بدا " هو " ليسجننه " وثانيها: أن المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكون فعلا، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل فإن قيل: المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة، وتلك الكلمة اسم قلنا فعلى هذا: المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلا بل إسما كان هذا الخبر كذبا، والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسما أو لا يكون، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذبا، لأن الاسم لا يكون فعلا، وإن كان فعلا فقد صار الفعل مخبرا عنه وثالثها: أنا إذا قلنا: الفعل لا يخبر عنه فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسما لزم أنا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه، وهذا خطأ وإن كان فعلا صار الفعل مخبرا عنه ثم قال هؤلاء: لما ثبت أنه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجة إلى ترك الظاهر. أما جمهور النحويين فقد أطبقوا على أنه لا يجوز الإخبار عن الفعل، فلا جرم كان التقدير: سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك، فإن قيل العدول عن الحقيقة إلى المجاز لا بد وأن يكون لفائدة زائدة إما في المعنى أو في اللفظ فما تلك الفائدة ههنا؟ قلنا قوله: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * معناه سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لهم بعد ذلك لأن القوم كانوا قد بلغوا في الإصرار واللجاج والأعراض عن الآيات والدلائل إلى حالة ما بقي فيهم البتة رجاء القبول بوجه. وقبل ذلك ما كانوا كذلك، ولو قال سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لما أفاد أن هذا المعنى إنما حصل في هذا الوقت دون ما قبله، ولما قال: * (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * أفاد أن هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت فكان ذلك يفيد حصول اليأس وقطع الرجاء منهم، وقد بينا أن المقصود من هذه الآية ذلك.