فإنه يلزمهم الذم لأجل أنهم تركوا شيئا هم بأنفسهم التزموه ومعلوم أن ترتيب الذم على الوجه الأول أولى، وثالثها: قال القفال: يحتمل أن يكون المقصود بالآية قوما من أهل الكتاب قد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وبين لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته. ورابعا: قال بعضهم، إنه عنى به ميثاقا أخذه من الناس وهم على صورة الذر وأخرجهم من صلب آدم كذلك، وهو معنى قوله تعالى: * (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) * (الأعراف: 172) قال المتكلمون هذا ساقط لأنه تعالى لا يحتج على العباد بعهد وميثاق لا يشعرون به كما لا يؤاخذهم بما ذهب علمه عن قلبهم بالسهو والنسيان فكيف يجوز أن يعيبهم بذلك؟ وخامسها: عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود. العهد الأول: الذي أخذه على جميع ذرية آدم وهو الإقرار بربوبيته وهو قوله: * (وإذ أخذ ربك) * وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهو قوله: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) * وعهد خص به العلماء، وهو قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * (آل عمران: 187) قال صاحب " الكشاف ": الضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله ويجوز أن يكون بمعنى توثيقه كما أن الميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه ورسله.
المسألة التاسعة عشرة: اختلفوا في المراد من قوله تعالى: * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) * فذكروا وجوها: أحدها: أراد به قطيعة الرحم وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها وهو كقوله تعالى: * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) * وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة، وعلى هذا التأويل تكون الآية خاصة. وثانيها: أن الله تعالى أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل المؤمنين فهم انقطعوا عن المؤمنين واتصلوا بالكفار فذاك هو المراد من قوله: * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) *. وثالثها: أنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن وهم كانوا مشتغلين بذلك.
المسألة العشرون: أما قوله تعالى: * (ويفسدون في الأرض) * فالأظهر أن يراد به الفساد الذي يتعدى دون ما يقف عليهم. والأظهر أن المراد منه الصد عن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام لأن تمام الصلاح في الأرض بالطاعة لأن بالتزام الشرائع يلتزم الإنسان كل ما لزمه، ويترك التعدي إلى الغير، ومنه زوال التظالم وفي زواله العدل الذي قامت به السماوات والأرض، قال تعالى فيما حكى عن فرعون أنه قال: * (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) * (غافر: 26) ثم إنه سبحانه وتعالى أخبر أن من فعل هذه الأفاعيل خاسر فقال: * (أولئك هم الخاسرون) * وفي هذا الخسران وجوه: أحدها: أنهم خسروا نعيم الجنة لأنه لا أحد إلا وله في الجنة أهل ومنزل، فإن أطاع الله وجده، وإن عصاه ورثه المؤمنون، فذلك قوله تعالى: * (أولئك