أنا قد نعقل المعدوم ولا يمكن أن يقال الصورة العقلية مطابقة للمعدوم لأن المطابقة تقتضي كون المتطابقين أمرا ثبوتيا والمعدوم نفي محض يستحيل تحقق المطابقة فيه ولقد حاول الغزالي إيضاح كلام الفلاسفة في تعريف العلم فقال إدراك البصيرة الباطنة نفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة كما نتوهم انطباع الصورة في المرآة مثلا فكما أن البصر يأخذ صورة المبصرات أي ينطبع فيه مثالها المطابق لها لا عينها فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال مطابق صورتها فكذا العقل على مثال مرآة ينطبع فيها صور المعقولات وأعني بصورة المعقولات حقائقها وماهياتها ففي المرآة أمور ثلاثة: الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيه فكذا جوهر الآدمي كالحديد وعقله كالصقالة والمعلوم كالصورة واعلم أن هذا الكلام ساقط جدا أما قوله لا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة فباطل لوجوه: أحدها: أنه ذكر في تعريف الأبصار المبصر والباصر وهو دور. وثانيها: أنه لو كان الأبصار عبارة عن نفس هذا الانطباع لما أبصرنا إلا بمقدار نقطة الناظر لاستحالة انطباع العظيم في الصغير فإن قيل الصورة الصغيرة المنطبعة شرط لحصول إبصار الشيء العظيم في الخارج قلنا الشرط مغاير للمشروط فالإبصار مغاير للصورة المنطبعة. وثالثها: أنا نرى المرئي حيث هو، ولو كان المرئي هو الصورة المنطبعة لما رأيته في حيزه ومكانه، وأما قوله: فكذا العقل ينطبع فيه صور المعقولات فضعيف لأن الصورة المرتسمة من الحرارة في العقل، إما أن تكون مساوية للحرارة في الماهية أو لا تكون، فإن كان الأول لزم أن يصير العقل حارا عند تصور الحرارة لأن الحار لا معنى له إلا الموصوف بالحرارة، وإن كان الثاني لم يكن تعقل الماهية إلا عبارة عن حصول شيء في الذهن مخالف للحرارة في الماهية وذلك يبطل قوله، وأما الذي ذكر من انطباع الصور في المرآة فقد اتفق المحققون من الفلاسفة على أن صورة المرئي لا تنطبع في المرآة فثبت أن الذي ذكره في تقرير قولهم لا يوافق قولهم ولا يلائم أصولهم ولما ثبت أن التعريفات التي ذكرها الناس باطلة فاعلم أن العجز عن التعريف قد يكون لخفاء المطلوب جدا وقد يكون لبلوغه في الجلاء إلى حيث لا يوجد شيء أعرف منه ليجعل معرفا له، والعجز عن تعريف ا لعلم لهذا الباب والحق أن ماهية العلم متصورة تصورا بديهيا جليا، فلا حاجة في معرفته إلى معرف، والدليل عليه أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه يعلم وجود نفسه وأنه يعلم أنه ليس على السماء ولا في لجة البحر، والعلم الضروري بكونه عالما بهذه الأشياء علم باتصاف ذاته بهذه العلوم والعالم بانتساب شيء إلى شيء عالم لا محالة بكلا الطرفين، فلما كان العلم الضروري بهذه المنسوبية حاصلا كان العلم الضروري بماهية العلم حاصلا وإذا كان كذلك كان تعريفه ممتنعا فهذا القدر كاف ههنا وسائر التدقيقات مذكورة في " الكتب العقلية " والله أعلم.
المسألة الثامنة: في البحث عن ألفاظ يظن بها أنها مرادفة للعلم وهي ثلاثون: أحدها: