بالمكان لكان ذلك العلو حاصلا أولا ولو كان حاصلا أولا لما كان متأخرا عن خلق ما في الأرض لكن قوله: * (ثم استوى) * يقتضي التراخي، ولما ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن الاستواء هو الاستقامة يقال استوى العود إذا قام واعتدل ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلتفت إلى شيء آخر ومنه استعير قوله: * (ثم استوى إلى السماء) * أي خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زمانا ولم يقصد شيئا آخر بعد خلقه الأرض.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء) * مفسر بقوله: * (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) * (فصلت: 9، 10) بمعنى تقدير الأرض في يومين وتقدير الأقوات في يومين آخرين كما يقول القائل من الكوفة إلى المدينة عشرون يوما، وإلى مكة ثلاثون يوما يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ومجموع ذلك ستة أيام على ما قال: * (خلق السماوات والأرض في ستة أيام) *.
المسألة الثالثة: قال بعض الملحدة هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء وكذا قوله: * (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) * إلى قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء) * وقال في سورة النازعات: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها) * (النازعات: 27 - 30) وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء وذكر العلماء في الجواب عنه وجوها: أحدها: يجوز أن يكون خلق الأرض قبل خلق السماء إلا أنه ما دحاها حتى خلق السماء لأن التدحية هي البسط ولقائل أن يقول هذا أمر مشكل من وجهين: الأول: أن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية وإذا كانت التدحية متأخرة عن خلق السماء كان خلقها أيضا لا محالة متأخرا عن خلق السماء. الثاني: أن قوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء) * يدل على أن خلق الأرض وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء لكن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة فهذه الآية تقتضي تقدم كونها مدحوة قبل خلق السماء وحينئذ يتحقق التناقض. والجواب: أن قوله تعالى: * (والأرض بعد ذلك دحاها) * يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض، وعلى هذا التقدير يزول التناقض، ولقائل أن يقول: قوله تعالى: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها) * يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدم على تدحية الأرض ولكن تدحية الأرض ملازمة لخلق ذات الأرض فإن ذات السماء وتسويتها متقدمة على ذات الأرض وحينئذ يعود السؤال، وثالثها: وهو الجواب الصحيح أن قوله: " ثم " ليس للترتيب ههنا وإنما هو على جهة تعديد النعم، مثاله قول الرجل لغيره: