لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * (البقرة: 48) واعلم أن حقيقة التقوى وإن كانت هي التي ذكرناها إلا أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة، والتوبة أخرى، والطاعة ثالثة، وترك المعصية رابعا: والإخلاص خامسا: أما الإيمان فقوله تعالى: * (وألزمهم كلمة التقوى) * (الفتح: 26) أي التوحيد * (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) * (الحجرات: 3) وفي الشعراء * (قوم فرعون ألا يتقون) * (الشعراء: 11) أي أو يؤمنون وأما التوبة فقوله: * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا) * (الأعراف: 96) أي تابوا، وأما الطاعة فقوله في النحل: * (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) * (النحل: 2) وفيه أيضا: * (أفغير الله تتقون) * (النحل: 52) وفي المؤمنين * (وأنا ربكم فاتقون) * (المؤمنون: 52) وأما ترك المعصية فقوله: * (وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله) * (البقرة: 189) أي فلا تعصوه، وأما الإخلاص فقوله في الحج: * (فإنها من تقوى القلوب) * (الحج: 32) أي من إخلاص القلوب، فكذا قوله: * (وإياي فاتقون) * (البقرة: 41) واعلم أن مقام التقوى مقام شريف قال تعالى: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * (النحل: 128) وقال: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * (الحجرات: 13) وعن ابن عباس قال عليه السلام: " من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده " وقال علي بن أبي طالب: التقوى ترك الإصرار عل المعصية، وترك الاغترار وبالطاعة. قال الحسن: التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله، وتعلم أن الأمور كلها بيد الله. وقال إبراهيم بن أدهم: التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيبا. ولا الملائكة في أفعالك عيبا ولا ملك العرش في سرك عيبا وقال الواقدي: التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق، ويقال: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك، ويقال: المتقي من سلك سبيل المصطفى، ونبذ الدنيا وراء القفا، وكلف نفسه الإخلاص والوفا، واجتنب الحرام والجفا، ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * كفاه، لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) * (البقرة: 185) ثم قال ههنا في القرآن: إنه هدي للمتقين، فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس، فمن لا يكون متقيا كأنه ليس بإنسان.
المسألة الثالثة: في السؤالات: السؤال الأول: كون الشيء هدى ودليلا لا يختلف بحسب شخص دون شخص، فلماذا جعل القرآن هدى للمتقين فقط؟ وأيضا فالمتقي مهتدي، والمهتدي لا يهتدي ثانيا والقرآن لا يكون هدى للمتقين. الجواب: القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى دينه وصدق رسوله، فهو أيضا دلالة للكافرين. إلا أن الله تعالى ذكر المتقين مدحا ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) وقال: * (إنما تنذر من اتبع الذكر) * (يس: 11) وقد كان عليه السلام منذرا لكل الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره. وأما من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه، لأن كون القرآن موصلا إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين. السؤال الثاني: كيف وصف القرآن كله بأنه هدى وفيه مجمل ومتشابه كثير؛ ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم عن المتشابه، فيكون الهدى