على صحة القول الأول وفساد القول الثاني والثالث أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبرا في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء، لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء محال، لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) * أثبت الهدى مع عدم الاهتداء، ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال: هديته فلم يهتد، وذلك يدل على قولنا، واحتج صاحب الكشاف بأمور ثلاثة: أولها: وقوع الضلالة في مقابلة الهدى، قال تعالى: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * (البقرة: 16) وقال: * (لعلى هدى) * أو * (في ضلال مبين) * (الأعراف: 60) وثانيها: يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهديا مدحا لاحتمال أنه هدى فلم يهتد وثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى يقال: هديته فاهتدى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع فكما أن الإنكسار والانقطاع لا زمان للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى. والجواب عن الأول: أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال، فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع، وعن الثاني: أن المنتفع بالهدى سمي مهديا، وغير منتفع به لا يسمى مهديا؛ ولأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم. وعن الثالث: أن الائتمار مطاوع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمرا حصول الائتمار، فكذا هذا لا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضيا إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد، ومما يدل على فساد قول من قال الهدى هو العلم خاصة أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدل على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.
معنى المتقي:
المسألة الثانية: المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقي، والوقاية فرط الصيانة، إذا عرفت هذا فنقول: إن الله تعالى ذكر المتقي ههنا في معرض المدح، ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقيا في أمور الدنيا، بل بأن يكون متقيا فيما يتصل بالدين، وذلك بأن يكون آتيا بالعبادات محترزا عن المحظورات. واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى؟ فقال بعضهم: يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد، وقال آخرون: لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟ فروي عنه عليه السلام أنه قال: " لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس " وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه. واعلم أن التقوى هي الخشية، قال في أول النساء: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم) * (النساء: 1) ومثله في أول الحج، وفي الشعراء * (إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون) * (هود: 106) يعني ألا تخشون الله، وكذلك قال هود وصالح، ولوط، وشعيب لقومهم، وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه * (اعبدوا الله واتقوه) * (نوح: 3) يعني اخشوه، وكذا قوله: * (اتقوا الله حق تقاته) * (آل عمران: 102) * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * (البقرة: 197) * (واتقوا يوما