فقهائنا ونحن نذكر محصل الكلام من الجانبين: أما القائلون بأن الملائكة أفضل من البشر فقد احتجوا بأمور. أحدها: قوله تعالى (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) إلى قوله (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) والاستدلال بهذه الآية من وجهين. الأول: أنه ليس المراد من هذه العندية عندية المكان والجهة فان ذلك محال على الله تعالى بل عندية القرب والشرف ولما كانت هذه الآية واردة في صفة الملائكة علمنا أن هذا النوع من القربة والشرف حاصل لهم لا لغيرهم ولقائل أن يقول إنه تعالى أثبت هذه العندية في الآخرة لآحاد المؤمنين وهو قوله (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) وأما في الدنيا فقال عليه الصلاة والسلام حاكيا عند سبحانه أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي) وهذا أكثر إشعار بالتعظيم لان هذا الحديث يدل على أنه سبحانه عند هؤلاء المنكسرة قلوبهم وما احتجوا به من الآية يدل على أن الملائكة عند الله تعالى، ولا شك أن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم، من كون العبد عند الله تعالى. الوجه الثاني:
في الاستدلال بالآية: أن الله تعالى احتج بعدم استكبارهم على أن غيرهم وجب أن لا يستكبروا ولو كان البشر أفضل منهم لما تم هذا الاحتجاج، فان السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته وجوب طاعتهم له يقول: الملوك لا يستكبرون عن طاعتي، فمن هؤلاء المساكين حتى يتمردوا عن طاعتي وبالجملة فمعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بالأقوى على الأضعف. ولقائل أن يقول: لا نزاع في أن الملائكة أشد قوة وقدرة من البشر، ويكفي في صحة الاستدلال هذا القدر من التفاوت، فإنه تعالى يقول إن الملائكة مع شده قوتهم واستيلائهم على أجرام السماوات والأرض وأمنهم من الهرم والمرض وطول أعمارهم، لا يتركون العبودية لحظة واحدة، والبشر مع نهاية ضعفهم ووقوعهم في أسرع الأحوال في المرض والهرم وأنواع الآفات، أولى أن لا يتمردوا فهذا القدر من التفاوت كاف في صحة هذا الاستدلال، ولا نزاع في حصول التفاوت في هذه المعنى، إنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب، فلم قلتم إن هذا الاستدلال لا يصح إلا إذا كان الملك أكثر ثوابا من البشر، ولابد فيه من دليل؟ مع أن المتبادر إلى الفهم هو الذي ذكرناه. وثانيها: أنهم قالوا عبادات الملائكة أشق من عبادات البشر، فتكون أكثر ثوابا من عبادات البشر، وإنما قلنا إنها أشق لوجوه. أحدها: أن ميلهم إلى التمرد أشد فتكون طاعتهم أشفق، وانما قلنا إن ميلهم إلى التمرد أشد، لان العبد السليم من الآفات، المستغنى عن طلب الحاجات، يكون أميل إلى النعم والالتذاذ منا لمغمور في الحاجات، فإنه يكون كالمضطرب في الرجوع إلي عبادة مولاه والالتجاء إليه، ولهذا قال تعالى (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) ومعلوم أن الملائكة سكان السماوات وهي جنات وبساتين ومواضع التنزه والراحة وهم آمنون من المرض والفقر ثم إنهم مع استكمال أسباب التنعم لهم أبدا مذ خلقوا مشتغلون بالعبادة خاشعون وجلون مشفقون كأنهم مسجونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنان