في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن، ومن هذا نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولا إلى الخوارج. لا تحتج عليهم بالقرآن، فإنه خصم ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب ذلك فيه؛ ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءا من آيات بعضها صريح في الجبر وبعضها صريح في القدر، فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد، فكيف يكون هدى؟.
الجواب: أن ذلك المتشابه والمجمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين - وهو إما دلالة العقل أو دلالة السمع - صار كله هدى. السؤال الثالث: كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى وصفاته، وفي معرفة النبوة، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق؟.
الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم، فإن الله تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم.
السؤال الرابع: الهدى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسرين ما يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالا كثيرة متعارضة، وما يكون كذلك لا يكون مبينا في نفسه فضلا عن أن يكون مبينا لغيره، فكيف يكون هدى؟ قلنا: من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المتعارضة، ولا يرجح واحدا منها على الباقي يتوجه عليه هو هذا السؤال، وأما نحن فقد رجحنا واحدا على البواقي بالدليل فلا يتوجه علينا هذا السؤال.
المسألة الرابعة: قال صاحب " الكشاف ": محل * (هدى للمتقين) * الرفع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع * (لا ريب فيه) * * (لذلك) *، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المتقدم خبرا عنه، ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه الإشارة، أو الظرف، والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذا المجال صفحا، وأن يقال: إن قوله: * (آلم) * جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و * (ذلك الكتاب) * جملة ثانية، و * (لا ريب فيه) * ثالثة و * (هدى للمتقين) * رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، والثانية متحدة بالأولى وهلم جرا إلى الثالثة، والرابعة.
بيانه: أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدي به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال