تقدرون كذبا * (وإذ تخلق من الطين) * (المائدة: 110) أي تقدر. وأما الشعر فقول زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري وقال آخر: ولا يئط بأيدي الخالقين ولا * أيدي الخوالق إلا جيد الأدم وأما الاستشهاد يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس، ومنه قول العرب للأحاديث التي لا يصدق بها، أحاديث الخلق، ومنه قوله تعالى: * (إن هذا إلا خلق الأولين) * (الشعراء: 137) والخلاق المقدار من الخير، وهو خليق أي جدير كأنه الذي منه الخلاق، والصخرة الخلقاء الملساء لأن في الملاسة استواء، وفي الخشونة اختلاف ومنه " أخلق الثوب " لأنه إذا بلي صار أملس واستوى نتوه واعوجاجه، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والاستواء قال القاضي عبد الجبار: الخلق فعل بمعنى التقدير واللغة لا تقتضي أن ذلك لا يتأتى إلا من الله تعالى بل الكتاب نطق بخلافه في قوله: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14)، * (وإذ تخلق من طين كهيئة الطير) * (المائدة: 110) لكنه تعالى لما كان يفعل الأفعال لعلمه بالعواقب وكيفية المصلحة ولا فعل له إلا كذلك لا جرم اختص بهذا الاسم وقال أستاذه أبو عبد الله البصري إطلاق اسم خالق على الله محال لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والنظر والحسبان وذلك في حق الله محال، وقال جمهور أهل السنة والجماعة: الخلق عبارة عن الإيجاد والإنشاء واحتجوا عليه بقول المسلمين لا خالق إلا الله، ولو كان الخلق عبارة عن التقدير لما صح ذلك.
المسألة الثالثة: اعلم أنه سبحانه أمر بعبادته والأمر بعبادته موقوف على معرفة وجوده، ولما لم يكن العلم بوجوده ضروريا بل استدلاليا لا جرم أورد ههنا ما يدل على وجوده، واعلم أننا بينا في " الكتب العقلية " أن الطريق إلى إثباته سبحانه وتعالى إما الإمكان، وإما الحدوث. وإما مجموعهما، وكل ذلك إما في الجواهر أو في الأعراض، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجوده سبحانه وتعالى ستة لا مزيد عليها. أحدها: الاستدلال بإمكان الذوات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (والله الغني وأنتم الفقراء) * (محمد: 38) وبقوله حكاية عن إبراهيم: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) * (الشعراء: 77) وبقوله: * (وأن إلى ربك المنتهى) * (النجم: 42) وقوله: * (قل الله ثم ذرهم، ففروا إلى الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * وثانيها: الاستدلال بإمكان الصفات وإليه الإشارة بقوله: * (خلق السماوات والأرض) * وبقوله: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) * على ما سيأتي تقريره. وثالثها: الاستدلال بحدوث الأجسام. وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) ورابعها: الاستدلال بحدوث الأعراض، وهذه الطريقة أقرب الطرق إلى أفهام الخلق، وذلك محصور في أمرين: دلائل الأنفس، ودلائل الآفاق، " والكتب الإلهية " في الأكثر مشتملة على هذين البابين، والله تعالى جمع ههنا بين هذين الوجهين. أما دلائل الأنفس، فهي أن كل أحد يعلم بالضرورة