السلطان قد رزق جنده مالا قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه، أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان لكل من الله، لكنه كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكلاب والخنازير، وقال: * (عينا يشرب بها عباد الله) * (الإنسان: 6) فخص اسم العباد بالمتقين، وإن كان الكفار أيضا من العباد، وكذلك ها هنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقا أيضا، وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا، لأن قوله عليه السلام: " فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه " صريح في أن الرزق قد يكون حراما وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض للغة وهو أن الحرام هل يسمى رزقا أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ والله أعلم.
المسألة التاسعة: أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ومنه نفق المبيع نفاقا إذا كثر المشترون له، ونفقت الدابة إذا ماتت أي خرج روحها، ونافقاء الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى: * (أن تبتغي نفقا في الأرض) * (الأنعام: 35).
المسألة العاشرة: في قوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) * فوائد: أحدها: أدخل من التبعيضية صيانة لهم، وكفى عن: الإسراف والتبذير المنهي عنه. وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال ويخصون بعض المال بالتصدق به. وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية، الإنفاق الواجب، والإنفاق المندوب، والإنفاق الواجب أقسام: أحدها: الزكاة وهي قوله في آية الكنز: * (ولا ينفقونها في سبيل الله) * (التوبة: 34).
وثانيها: الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته. وثالثها: الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضا إنفاق لقوله: * (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) * وأراد به الصدقة لقوله بعده: * (فأصدق وأكن من الصالحين) * (المنافقون: 10) فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح.
* (والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون) *.
اعلم أن قوله: * (الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3) عام يتناول كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، سواء كان قبل ذلك مؤمنا بموسى وعيسى عليهما السلام، أو ما كان مؤمنا بهما، ودلالة اللفظ العام على بعض ما دخل فيه التخصيص أضعف من دلالة اللفظ الخاص على ذلك البعض، لأن العام يحتمل التخصيص والخاص لا يحتمله فلما كانت هذه السورة مدنية، وقد شرف الله تعالى المسلمين بقوله: * (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 2، 3) فذكر بعد ذلك أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسول: كعبد الله بن سلام وأمثاله بقوله: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * لأن في هذا التخصيص بالذكر مزيد تشريف لهم كما في قوله تعالى: * (من كان عدو الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (البقرة: 98) ثم تخصيص