فإن ظن ظان أن قولهم ذلك له إنما هو استعظام منهم، لان ذلك منهم كان مسألة آية، فإن الآية إنما يسألها الأنبياء من كان بها مكذبا، ليتقرر عنده حقيقة ثبوتها وصحة أمرها، كما كانت مسألة قريش نبينا محمدا (ص) أن يحول لهم الصفا ذهبا ويفجر فجاج مكة أنهارا من سأله من مشركي قومه، وكما كانت مسألة صالح الناقة من مكذبي قومه، ومسألة شعيب أن يسقط كسفا من السماء من كفار من أرسل إليهم. وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، على هذا الوجه كانت مسألتهم، فقد أحلهم الذين قرأوا ذلك بالتاء ونصب الرب محلا أعظم من المحل الذي ظنوا أنهم نزهوا ربهم عنه، أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسل، وأن الله تعالى على ما سألوا من ذلك قادر. فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك، وإنما كانت مسألتهم إياه ذلك على نحو ما يسأل أحدهم نبيه، إذا كان فقيرا أن يسأل له ربه أن يغنيه، وإن عرضت به حاجة أن يسأل له ربه أن يقضيها، فأني ذلك من مسألة الآية في شئ؟ بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه، فسأل نبيه مسألة ربه أن يقضيها له. وخبر الله تعالى عن القوم ينبئ بخلاف ذلك، وذلك أنهم قالوا لعيسى، إذ قال لهم: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا. فقد أنبأ هذا من قيلهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوته، فلا بيان أبين من هذا الكلام في أن القوم كانوا قد خالطوا قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختبارا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10119 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ليث، عن عقيل، عن ابن عباس، أنه كان يحدث عن عيسى (ص) أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير، قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا، ولم نكن نعمل لاحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال عيسى اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من