تفسير كنز الدقائق - الميرزا محمد المشهدي - ج ٢ - الصفحة ٣١٨
وفي قدرته (1) (2).
وعنه (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: نبه بالتفكر قلبك، وجاف عن الليل جنبك، واتق الله ربك (3) (4).

(١) الحديث الثالث مرسل كالصحيح، فإنه يقال: مراسيل البزنطي في حكم المسانيد. والادمان، الإدامة، وقوله (عليه السلام): (وفي قدرته) كأنه عطف تفسير لقوله: (في الله) فإن التفكر في ذات الله وكنه صفاته ممنوع كما مر في الاخبار في كتاب التوحيد، لأنه يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل. فالمراد بالتفكر في الله، النظر إلى أفعاله وعجائب صنعه، وبدائع أمره في خلقه، فإنها تدل على جلاله وكبريائه وتقدسه وتعاليه، وتدل على كمال علمه وحكمته، وعلى نفاذ مشيته وقدرته، وإحاطته بالأشياء. وأنه سبحانه لكمال علمه وحكمته لم يخلق هذا الخلق عبثا من غير تكليف ومعرفة وثواب وعقاب، فإنه لو لم تكن نشأة أخرى باقية غير هذه النشأة الفانية المحفوفة بأنواع المكاره والآلام لكان خلقها عبثا، كما قال تعالى: " أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون " وهذا تفكر اولي الألباب كما قال تعالى: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار " وقال سبحانه: " ومن آياته - ومن آياته " في مواضع كثيرة، فتلك الآيات هي مجاري التفكر في الله وفي قدرته لأولي النهى، لا ذاته تعالى، فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما قال: تفكروا في آلاء الله، فإنكم لن تقدروا قدره (مرآة العقول: ج ٧ ص ٣٤١).
(٢) الكافي: ج ٢ ص ٥٥، كتاب الايمان والكفر، باب التفكر، ح ٣.
(٣) التنبيه، الايقاظ عن النوم وعن الغفلة، وفي القاموس: النبه بالضم الفطنة والقيام من النوم، وأنبهه ونبهه فتنبه وانتبه، وهذا منبهة على كذا يشعر به، ولفلان مشعر بقدره ومعل له، وما نبه له كفرح ما فطن، والاسم النبه بالضم، ونبه باسمه تنبيها نوه، انتهى.
والتفكر إعمال الفكر فيما يفيد العلم به قوة الايمان واليقين، والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.
قال الغزالي: حقيقة التفكر طلب علم غير بديهي من مقدمات موصلة إليه، كما إذا تفكر أن الآخرة باقية، والدنيا فانية، فإنه يحصل له العلم بأن الآخرة خير من الدنيا، وهو يبعثه على العمل للآخرة، فالتفكر سبب لهذا العلم. وهذا العلم حالة نفسانية، وهو التوجه إلى الآخرة، وهذه الحالة تقتضي العمل لها، وقس على هذا، فالتفكر موجب لتنور القلب وخروجه من الغفلة، وأصل لجميع الخيرات.
وقال المحقق الطوسي (قدس سره): التفكر سير الباطن من المبادئ إلى المقاصد، وهو قريب من النظر، ولا يرتقي أحد من النقص إلى الكمال إلا بهذا السير. ومبادئه الآفاق والأنفس، بأن يتفكر في أجزاء العالم وذراته، وفي الاجرام العلوية من الأفلاك والكواكب وحركاتها وأوضاعها ومقاديرها واختلافاتها ومقارناتها ومفارقاتها وتأثيراتها وتغييراتها. وفي الاجرام السفلية وترتيبها وتفاعلها وكيفياتها ومركباتها ومعدنياتها وحيواناتها. وفي أجزاء الانسان وأعضائه من العظام والعضلات والعصبات والعروق وغيرها مما لا يحصى كثرة. ويستدل بها وبما فيها من المصالح والمنافع والحكم والتغير على كمال الصانع وعظمته وعلمه وقدرته وعدم ثبات ما سواه.
وبالجملة: التفكر فيما ذكر ونحوه، من حيث الخلق والحكمة والمصالح، أثره العلم بوجود الصانع وقدرته وحكمته، ومن تغيره وانقلابه وفنائه بعد وجوده، أثره الانقطاع منه والتوجه بالكلية إلى الخالق الحق. ومن هذا القبيل التفكر في أحوال الماضين وانقطاع أيديهم عن الدنيا وما فيها ورجوعهم إلى دار الآخرة، فإنه يوجب قطع المحبة عن غير الله والانقطاع إليه بالتقوى والطاعة، ولذا أمر بهما بعد الامر بالتفكر.
ويمكن تعميم التفكر بحيث يشمل التفكر في معاني الآيات القرآنية والاخبار النبوية والآثار المروية عن الأئمة (عليهم السلام) والمسائل الدينية والأحكام الشرعية، وبالجملة كلما أمر الشارع الصادع بالخوض فيه والعلم به.
قوله (عليه السلام): (وجاف عن الليل جنبك) الجفا البعد، وجاف عنه كذا، أي باعده عنه في الصحاح: جفا السرج عن ظهر الفرس وأجفيته أنا، إذا رفعته عنه، وجافاه عنه فتجافى جنبه عن الفراش، أي نبا، انتهى.
وقال سبحانه: " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " وإسناد المجافاة إلى الليل، مجاز في الاسناد، أي جاف عن الفراش بالليل، أو فيه تقدير مضاف، أي جاف عن فراش الليل جنبك. وعلى التقادير كناية عن القيام بالليل للعبادة وقد مر معنى التقوى، والتوصيف بالرب، للتعليل (مرآة العقول: ج ٧ ص ٣٣٨ - ٣٤٠).
الكافي: ج ٢ ص ٥٤ كتاب الايمان والكفر، باب التفكر، ح 1.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 3.
(٣١٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 313 314 315 316 317 318 319 320 321 322 323 ... » »»
الفهرست