أقول: الظاهر أن حديث الطبراني الأول بيان لكون وقته بعد صلاة العشاء، حتى لو نام ثم تطوع قبلها لا يحصل السنة، فيكون حديث الطبراني الثاني مفسرا للأول، وهو أولى من إثبات التعارض والترجيح لان فيه ترك العمل بأحدهما، ولأنه يكون جاريا على الاصطلاح، ولأنه المفهوم من إطلاق الآيات والأحاديث، ولان التهجد إزالة النوم بتكلف مثل، تأثم: أي تحفظ عن الاثم نعم صلاة الليل وقيام الليل أعم من التهجد، وبه يجاب عما أورد على قول الإمام أحمد، هذا ما ظهر لي والله أعلم.
تنبيه: ظاهر ما مر أن التهجد لا يحصل إلا بالتطوع، فلو نام بعد صلاة العشاء ثم قام فصلى فوائت لا يسمى تهجدا، وترد فيه بعض الشافعية.
قلت: والظاهر أن تقييده بالتطوع بناء على الغالب وأنه يحصل بأي صلاة كانت، لقوله في الحديث المار وما كان بعد صلاة العشاء فهو من الليل ثم اعلم أن ذكره صلاة الليل من المندوبات مشى عليه في الحاوي القدسي، وقد تردد المحقق في فتح القدير في كونه سنة أو مندوبا، لان الأدلة القولية تفيد الندب، والمواظبة الفعلية تفيد السنية، لأنه (ص) إذا واظب على تطوع يصير سنة لكن هذا بناء على أنه كان تطوعا في حقه، وهو قول طائفة. وقالت طائفة: كان فرضا عليه فلا تفيد مواظبته عليه السنية في حقنا، لكن صريح ما في مسلم وغيره عن عائشة أنه كان فريضة ثم نسخ، هذا خلاصة ما ذكره، ومفاده اعتماد السنية في حقنا، لأنه (ص) واظب عليه بعد نسخ الفرضية، ولذا قال في الحية: والأشبه أنه سنة. قوله: (وأقلها على ما في الجوهرة ثمان) قيد بقوله: على ما في الجوهرة لأنه في الحاوي القدسي قال: يصلي ما سهل عليه ولو ركعتين، والسنة فيها ثمان ركعات بأربع تسليمات ا ه. والتقييد بأربع تسليمات مبني على قول الصاحبين، وأما على قول الإمام فلا، كما ذكره في الحلية، وقال فيها أيضا: وهذا بناء على أن أقل تهجده (ص) كان ركعتين، وأن منتهاه كان ثماني ركعات أخذا مما في مبسوط السرخسي، ثم ساق تبعا لشيخه المحقق ابن الهمام الأحاديث الدالة على ما عينه في المبسوط من منتهاه، وحديث أبي داود الدال على أن أقل تهجده (ص) أربع سوى ثلاث الوتر، وتمام ذلك فيها فراجعها، لكن ذكر آخر عنه (ص) من استيقظ من الليل وأيقظ أهله فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال المنذري: صحيح على شرط الشيخين ا ه.
أقول: فينبغي القول بأن أقل التهجد ركعتان، وأوسطه أربع، وأكثره ثمان، والله أعلم. قوله:
(ولو جعله أثلاثا الخ) أي لو أراد أن يقوم ثلثه وينام ثلثيه فالثلث الأوسط أفضل من طرفيه، لان الغفلة فيه أتم والعبادة فيه أثقل، ولو أراد أن يقوم نصفه وينام نصفه فقيام نصفه الأخير أفضل لقلة المعاصي فيه غالبا، وللحديث الصحيح ينزل ربنا إلى سماء الدنيا في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ ومعنى ينزل ربنا: ينزل أمره كما أوله به الخلف وبعض أكابر السلف، وتمامه في تحفة ابن حجر، وذكر أن الأفضل من الثلث الأوسط السدس الرابع والخامس، للخبر المتفق عليه أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ا ه. وبه جزم في الحلية.