فالفتوحات أيقظت غريزة العرب الجاهلية من الغرور والنخوة، بعدما كانت في سكن بالتربية النبوية. فكانت تتسرب فيهم روح الأمم المستعلية وتتمكن منهم رويدا. ويشهد بذلك شيوع تقسيم الأمة المسلمة يومئذ إلى العرب والموالي، وسيرة معاوية وهو والي الشام يومذاك بين المسلمين بسيرة ملوكية قيصرية، حتى قال عمر بن الخطاب: أتذكرون كسرى وعندكم معاوية، وأمور أخرى كثيرة ذكرها التاريخ. وتحت ظل الفتوحات راج الحديث رواجا بينا في عصر معاوية، وكان عدد من أهل الكتاب قد دخلوا في الإسلام، وأخذ عنهم المحدثون شيئا كثيرا من أخبار كتبهم وقصص أنبيائهم وأممهم فخلطوها بما كان عندهم من الأحاديث المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ الوضع والدس يدوران في الأحاديث. وتحت ظل الفتوحات اتسع نطاق المباحث الكلامية، لأن الفتوحات الواسعة أفضت بالطبع إلى اختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم وأرباب الملل والنحل وفيهم العلماء والأحبار والأساقفة والبطاركة الباحثون في الأديان والمذاهب، فارتفع منار الكلام في عهد عمر، ثم اتسع في عهد عثمان وعلى امتداد حكم بني أمية. وتحت ظل الفتوحات نقلت علوم الأوائل من المنطق والرياضيات والطبيعيات والإلهيات والطب والحكمة العملية إلى العربية، نقل شطر منها في عهد الأمويين، ثم أكمل في أوائل عهد العباسيين. فقد ترجموا مئات الكتب من اليونانية والرومية والهندية والفارسية والسريانية إلى العربية، وأقبل الناس يتدارسون مختلف العلوم، ولم يلبثوا كثيرا حتى استقلوا بالنظر وصنفوا فيها كتبا ووسائل. وفي ظل الفتوحات ظهرت قوافل التصوف التي ترفض ما وصل إليه الحال. ثم ظهرت قوافل أخرى يتكلمون بأمور تناقض الدين وحكم العقل، وغير ذلك كثير. وما كان هذا ليحدث لو طاب أعلى الوعاء، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء، إذا طاب أعلاه طاب أسفله، وإذا خبث أعلاه خبث أسفله " (1).
ولقد سقطت السياسة المالية يوم اتخذ الفيئ دولا، ففي حديث النبي