وكان جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين شجرة باسقة تترعرع في كل ورقة من أوراقها خصيصة من خصائص أهل البيت في عصر جديد للعلم، تعاونت فيه أجيال ثلاثة متتابعة منه ومن أبيه وجده.
ولما استمسك بإمامته وقنع بمنصبه التعليمي، علا قدره في أعين طلاب السلطة، وأمنوا جانبه واتخذوا من زهده فيها شهادة لهم ضد من ينازعونهم.
لكنه كان الغرض الذي تنجذب إليه الأنظار: فهو يمثل العقيدة الدينية التي يقاس بفضائلها عمل الحكام في الاسلام، وما يتبعه من رضى العامة عنهم، أو سخطها عليهم.
وهو بوجه خاص حجر الزاوية من صرح أهل البيت ترنو إليه أبصار الذين يدعون الخلافة بدعوى أنهم من أهل البيت.
وهو مقيم في المدينة العاصمة الأولة والدائمة للاسلام، يتحلق فيها المتفقهة حول علماء الاسلام في مسجد الرسول، يحملون بأيديهم مصابيح السنة، أو يعلنون شرعية الحكومة أو عدمها، وحسن السيرة أو فسادها، وإقرار أهل العلم أو إنكارهم. وهي أمور أساسية تحرص عليها الدولة العادلة وتتجنب الاتهام بمخالفتها أي دولة.
وإذا كانت دمشق قد أدارت ظهرها لمدينة الرسول أو كانت بغداد قد فتحت أبوابها على العالم وأوصدتها دون أهل المدينة، فالمسلمون يأتون إلى مدينة الرسول كل عام، خفافا وعلى كل ضامر، إذ يحجون إلى البيت العتيق بمكة، ويزورون قبر الرسول ويشهدون آثاره في المدينة.
وإذا كان الخليفة المنصور يقول عن نفسه: إنما أنا سلطان الله في الأرض فهو يحس وطأة سلطان الدين والعلم في المدينة، حيث إمام المسلمين غير منازع جعفر بن محمد الذي يصفه الناس - وأبو جعفر المنصور في طليعتهم - بالصادق.
ومن أوصافه كذلك: الطاهر والفاضل والصابر.