الناطقة الفناء كانت باقية بعد المفارقة (ثم إنها إما
جاهلة)
جهلا مركبا (وإما عالمة أما الجاهلة فتتألم بعد المفارقة أبدا) كالكافر عندنا (وذلك لشعورها بنقصانها نقصانا لا مطمع له في زواله) وإنما لم تتألم قبل المفارقة لأنها لما كانت مشتغلة بالمحسوسات منغمسة في العلائق البدنية ولم تكن تعقلاتها صافية عن الشوائب العادية
والظنون والأوهام الكاذبة لم تتنبه لنقصانها وفوت كمالاتها بل ربما تخيلت أضداد الكمال كمالا وفرحت بعقائدها الباطلة واشتاقت الوصول إلى معتقداتها وإذا فارقت صفت تعقلاتها وشعرت بفوت كمالاتها وامتناع نيلها وحصول نقصاناتها شعورا لا يخفى فيه التباس (وأما العالمة فأما) أن تكون (لها هيئات رديئة اكتسبتها بملابسة البدن ومباشرة الرذائل المقتضاة للطبيعة وميلها إلى
الشهوات أولا فإن كانت) تلك الهيئات حاصلة لها (تألمت بها) تألما عظيما واشتاقت إلى مشتهياتها التي ألفت بها اشتياق العاشق المهجور الذي لم يبق له رجاء الوصول (ما دامت) تلك الهيئات (باقية فيها لكنها تزول عاقبة الأمر بحسب شدة رسوخها فيها وضعفها لأنها إنما حصلت لها للركون إلى البدن وجرتها) أي جرت وكسبت تلك الهيئات للنفس (محبتها له) أي للبدن (وذلك مما ينسي بطول العهد به وتزول بالتدريج) وتقطع عقوبتها بها كالمؤمن من الفاسق على رأينا (وإن لم تكن) تلك الهيئات للنفس (بل كانت كاملة بريئة عن الهيئات الرديئة التذت بها) أي بوجدان لذاتها كذلك (أبدا مبتهجة بإدراك كمالها) باقيا سرمدا كالمؤمن المتقي عندنا وأما النفوس الساذجة التي غلبت عليها سلامة الصدور وقلة الاهتمام بأمور الدنيا فلا عقوبة لها لعدم شعورها بالكمالات وانتفاء اشتياقها إليها كغير المكلفين عندنا (فهذا ما عليه
____________________
لاستعداد انقطاع تعلقها به إذا خرجت عن المزاج الصالح لأن يكون محلا لتدبيرها وتصرفها لكن لما لم يتوقف انقطاع تدبيرها على عدمها في نفسها لم يكن هذا الاستعداد منسوبا إلى عدمها في نفسها لا بالذات ولا بالعرض فظهر الفرق بين استعداد حدوثها واستعداد عدمها وإن الأول يجوز قيامه بالبدن دون الثاني واندفع النقض بالصور الغائبة لأن انتفاء حلولها في المادة يستلزم انتفاءها عندهم وأنت خبير بأن هذا مبني على بساطة النفس وتجردها وقد تحققت فيما سبق إن أدلة ذلك غير تامة وعلى تقدير تمامها جاز أن يكون قابل الفناء نفس النفس إذ لا محذور في ذلك كما تحققت الآن وهذا الجواب الاجمالي والتفصيلي مذكور في المطولات (قوله وأما العالمة الخ) قال ابن سينا في بعض كتبه أما قدر العلم الذي يحصل به السعادة الأخروية فليس يمكنني أن أنص عليه نصا إلا بالتقريب وأظن أن ذلك أن يتصور الإنسان المبادئ المفارقة تصورا حقيقيا ويصدق بها تصديقا يقينيا برهانيا ويعرف العلل الثانية للحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى ويتقرر عنده هيئة الكل ونسب أجزائه بعضها إلى بعض والنظام الآخذ من المبدإ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه ويتصور العناية وكيفيتها