علماء الاسلام في هذا الفن الاسلام الجليل، وهذه وحدها ميزة كافية للتوفر عليه والمبالغة في العناية به، وإحلاله المحل الذي يليق له من الثقة به والاعتماد عليه.
صنفه مؤلفه محمد بن إسحاق بن يسار في أول عهد الخلفاء العباسيين، وهذبه مهذبه بعد تأليفه بنصف قرن أو يزيد قليلا، وهي المدة التي بين وفاتيهما، وهو يرويه عن مؤلفه بواسطة رجل واحد هو زياد البكائي.
وليس من شك عندنا ولا عند أحد من الناس أن الكتاب الذي وضعه محمد ابن إسحاق أكبر من هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم وأوفر مادة وأكثر جمعا، وبخاصة في أخبار الجاهلية التي تسبق بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنا لا نشك في أن ابن هشام قد حافظ على عبارة ابن إسحاق فيما أبقاه من الكتاب: لم يغير منها كلمة، بل أداها كما رواها له زياد البكائي عن ابن إسحاق، وآية ذلك أنه يأتي بعبارة ابن إسحاق ولو لم تكن موافقة لما يعلمه هو، ثم يعقب عليها بقوله: قال ابن هشام، ويذكر ما يراه صوابا، سواء أكان ذلك في ذكر علم من أعلام الأناسي أم في ذكر رواية في غير ذلك، وأنت تراه يشرح كلمة يراها غامضة بكلمة أخرى أوضح منها، أو يذكر رواية أخرى في كلمة غير رواية ابن إسحاق، أو يستشهد على استعمال أسلوب أو لفظ، أو نحو ذلك مما تقف على مثال له في كل ورقة من أوراق الكتاب، وهو يبين لك في بعض الأحايين أنه أسقط في هذا الموضوع كلاما أو أبياتا أو خبرا، ويبين في أغلب الأحيان ما دعاه إلى ذلك ومن عجيب تحرى هذا الرجل ودقته أنه يروى لك خبرا طويلا أو قصيدة طويلة ثم يجئ في آخر الخبر أو القصيدة فيقول لك: كلمة كذا من غير ابن إسحاق.
وأكثر ما ترك ابن هشام مما رواه ابن إسحاق متصلا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذي يرويه ابن إسحاق بعد الغزوات، ولا يقتصر فعل ابن هشام في ذلك على الشعر الذي قاله المشركون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما يدعى بعض من ينسب نفسه إلى التحقيق من أهل هذا العصر، بل إنك