وهذا عمل يستحق الثناء والحمد، وهو وحده مجهود ليس بالقليل، وهو - مع جلالته وما يحتاجه من الجهد - ليس كل ما صنع ابن هشام في سيرة ابن إسحاق بل هو يتجاوز ذلك إلى تحقيق الاعلام وذكر أوهام ابن إسحاق وما وقع له من الروايات التي تخالف ما رواه صاحب الأصل، سواء في ذلك ما يرتبط بأخبار الرسول وغير ما يرتبط بها، ويعلق على عبارات السيرة تعليقات من الشرح والنقد تدل على سعة اطلاع وكبير فضل، وإن لم يكن نقده الذي وجهه إلى ابن إسحاق أحيانا مما يشبع نهمه الذين يتطلعون إلى التحقيق العلمي، ولسنا نشك في أن ابن هشام كان مستطيعا أن يبلغ من ذلك إلى ما يريد هؤلاء وفوق ما يريدون، وأنه لو تعلقت رغبته بأن يبلغ هذا الشأو لما استعصى عليه، فقد كانت طرق النقد الدقيقة وبحث أحوال الرواة قد وضع المحدثون مبادئها وشرعوا في ترتيب أصولها، وكان هو من أهل العلم البارعين الواسعي الاطلاع ذلك بعض صنيع ابن هشام في سيرة ابن إسحاق، فلا جرم صارت نسبة السيرة إليه ليست من اغتصاب آثار السلف وانتحالها، ولم يعد لنا أن نعد على العلماء اعتبارهم هذا الكتاب من تصنيف ابن هشام وقد لقيت هذه السيرة من نباهة الذكر ما لم يلقه كتاب آخر من كتب السيرة، سواء في ذلك الكتب التي شاركتها في زمان التأليف والتي جاءت بعدها وقد كانت - ولا تزال إلى يوم الناس هذا - من أمهات المراجع التي يقصدها الباحثون في تاريخ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما لقيت من عناية العلماء بشرح حوادثها وأبياتها والتعليق على أحاديثها وتخريجها وضبط كلماتها الشئ الكثير، كما لقيت من إقبال أهل العلم على قراءتها ما هي جديرة به، وبحسبك أن تعلم أنها قد طبعت في أوروبا مرة وفى بولاق مرة ثم طبعت بعد ذلك في مصر مرارا وأنك تبحث الآن عن نسخة من إحدى هذه الطبعات فلا تجدها بعد البحث الطويل.
(مقدمة الكتاب ١٣)