لتجد ابن هشام قد ترك في كثير من الأحيان شعرا من كلام شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هجوا به المشركين، لأنه وجد فيه من الاقذاع في الهجاء ما يصرفه عن روايته، وهذا أمر من الأمور التي أكبرنا شأنها، وعظم عندنا من أجلها ابن هشام ومنهج ابن هشام، فإن روح الانصاف والعدل لتبدو جد واضحة في هذا الصنيع، فكما يحذف من شعر المشركين لان قائليه قد أقذعوا فيه يترك كذلك من شعر أصحاب النبي لانهم أقذعوا فيه، فليهون على أنفسهم أولئك الذين يرمون علماء المسلمين بالتعصب والعصبية، وبأنهم نقصوا الاخبار من أطرافها وحذفوا مما قيل في الرسول كثيرا، وليعلموا أن علماء المسلمين كانوا أحب الناس للنصفة، وأكثرهم تقديرا للعلم، وأعلاهم كعبا في بناء صرح الانسانية الكاملة، وكانوا - مع ذلك كله - أقدر الناس على تناسى الأحقاد ونبذ الضغائن حينما يعمدون إلى تدوين العلم وشرح مسائله، وليذكروا فوق هذا كله أن في القرآن الكريم الذي يتلوه المسلمون في محاريبهم وصلواتهم آيات تسجل عبارات من الهجو الذي قاله المشركون في رسول الله وقد ترك ابن هشام مما كتبه ابن إسحاق قسما كبيرا لم يكن في كتابته غناء ولا نفع، ولا هو - في جملته وتفصيله - مما يحتاجه الناس أو تقوم على صحته الأدلة العلمية، وذلك حديث ما قبل إسماعيل وإبراهيم من بدء الخليقة، وحديث أبناء إسماعيل على التفصيل، وأخبار ليست من سيرة النبي في شئ، ولا هي مؤدية في جملتها وتفصيلها إلى شئ من ذلك، وترك كذلك أشعارا لم يجد أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وإن كان قد أبقى من هذا النوع كثيرا، غير أن الاعتذار عنه أمر قريب: فهو حين يذكر شعرا من هذا النوع ينبه بعد روايته أو قبلها بأنه لم ير أحدا من أهل العلم بالشعر يثبتها لمن نسبت إليه، وتجد ذلك كثيرا في الشعر الذي يذكر بعد الغزوات، وقد بين هو في مطلع كتابه ما أخذ وما ترك وسبب تركه ما ترك بيانا وافيا
(مقدمة الكتاب ١٢)