وأما ما يدل على وقوع النسخ في الشرع إما بالنسبة إلى من خالف من المسلمين في ذلك فهو أن الصحابة والسلف أجمعوا على أن شريعة محمد (ص)، ناسخة لجميع الشرائع السالفة، وأجمعوا على نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس باستقبال الكعبة، وعلى نسخ الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي (ص)، ووجوب التربص حولا كاملا عن المتوفى عنها زوجها، ووجوب ثبات الواحد للعشرة، المستفاد من قوله تعالى: * (إن يكن منكم عشرون صابرون) * (8) الأنفال: 65) الآية، بقوله: * (الآن خفف الله عنكم) * (8) الأنفال: 66) الآية، إلى غير ذلك من الاحكام المتعددة (1).
وأما بالنسبة إلى منكر ذلك من اليهود فيدل عليه أنه ورد في التورية أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه، وقد حرم ذلك في شريعة من بعده، وأيضا فإن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من الفلك إني جعلت لك كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم فلا تأكلوه وقد حرم كثيرا من الدواب على ما بعده من أرباب الشرائع، وهو عين النسخ (2).
فإن قيل: يحتمل أن أمر آدم والإباحة لنوح وذريته كان مقيدا بظهور شريعة من بعده، فتحريم ذلك على من بعده لا يكون نسخا لانتهاء مدة الحكم الأول لكونه كان مقيدا بظهور شريعة من بعده.
قلنا: الامر لآدم والإباحة لنوح كان مطلقا. والأصل عدم التقييد.
وإن قيل إنه كان ذلك مقيدا في علم الله تعالى بظهور شريعة أخرى.
قلنا: فهذا هو عين النسخ، فإن الله تعالى إذا أمر بالفعل مطلقا، فهو عالم بأنه سينسخه، ويعلم وقت نسخه، فتقييده في علمه لا يخرجه عن حقيقة النسخ.