وأما إذا قلنا بامتناع التكليف بما لا يطاق، فالحق ما قالوه، وذلك لأنه إذا كان المبين واجبا، فلو لم يكن البيان واجبا، لجاز تركه، ويلزم من ذلك التكليف بما لا يطاق، وهو خلاف الفرض.
وإذا كان المبين غير واجب، فالقول بعدم إيجاب البيان لا يفضي إلى التكليف بما لا يطاق، إذ لا تكليف فيما ليس بواجب، لان ما لا يكون واجب الفعل، ولا واجب الترك، فهو إما مندوب، أو مباح، أو مكروه. وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة لا تكليف فيه على ما تقدم (1) ولا يلزم من القول بالوجوب حذرا من تكليف ما لا يطاق الوجوب مع عدم التكليف أصلا، اللهم إلا أن ينظر إلى التكليف بوجوب اعتقاده، على ما هو عليه من إباحة أو ندب أو كراهة، فيكون من القسم الأول.
المسألة الرابعة في جواز تأخير البيان: أما عن وقت الحاجة، فقد اتفق الكل على امتناعه سوى القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق، ومدار الكلام من الجانبين فقد عرف فيما تقدم.
وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، ففيه مذاهب:
فذهب أكثر أصحابنا وجماعة من أصحاب أبي حنيفة إلى جوازه، وذهب بعض أصحابنا، كأبي إسحاق المروزي وأبي بكر الصيرفي، وبعض أصحاب أبي حنيفة والظاهرية، إلى امتناعه، وذهب الكرخي وجماعة من الفقهاء إلى جواز تأخير بيان المجمل دون غيره، وذهب بعضهم إلى جواز تأخير بيان الامر دون الخبر (2) وذهب الجبائي وابنه والقاضي عبد الجبار إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره وذهب أبو الحسين البصري إلى جواز تأخير بيان ما ليس له ظاهر كالمجمل، وأما ماله ظاهر وقد استعمل في غير ظاهره، كالعام والمطلق والمنسوخ ونحوه، فقال يجوز تأخير بيانه التفصيلي، ولا يجوز تأخير بيانه الاجمالي، وهو أن يقول وقت الخطاب:
هذا العموم مخصوص، وهذا المطلق مقيد، وهذا الحكم سينسخ.